ممدوح عبد الستار : اختلاف بسيط
برفق، وضع يديه على صدري مبكراً، فمسح عني غلالة الليل، وسمعتُ الديوك تبتهل بالدعاء القديم، وانفتح قلبي يسمع ترنيمة البدايات، بعدما غرقتْ الديوك في نقرها المستمر، لتنفتح عين أخرى للنهار.
الديوك تعلن صيحات الحقيقة الأبدية كل يوم.
زينتُ وجهي وهندامي، فقد كان هو الآخر مزهواً بنفسه. لم أر ابتسامته هذه منذ فترة. كثيراً ما سألته عن حياد تقاطيع وجهه، فكان يشهق، فتشهق روحي معه، وأصمت لجلال الحزن البائن في عينيه.
تأبطني هذه المرة، وخرجنا سوياً مزهوين بما لدينا، وكنتُ قد قَبّلتُ زوجتي على جبينها، ولم أفلح في أكثر من هذا. كان يمكن أن أتركها، وأمضي..لكني وجدته يوشوشها بغنج. وأنفاسه قريبة تلسعني في قلبي، وتحفزني لإثبات رجولتي، فرحتي طوت كل فعل سوء أو سوء ظن، فقلبي أبيض اليوم، ولعلها تريد منه شيئاً عصياً لا تستطيع طلبه مباشرة مني، تحرضه، ليضعني في (خانة أليك) فهو عزيز على قلبي، وأثق فيه على كل حال.
أوصلني إلى عمي، هذه هي المرة الأولى. لوح لي لما دخلتُ، ولوحتُ له بشدة لما بَعُد. قابلني أحمد شرف بلهفة، وأمسك معصمي بعنف.
- تأخرت كثيراً.
مازلتُ ألوح له بشدة، وهو يبعد أكثر. أوجع أحمد معصمي من كثرة القرص، فأنزلتْ يدي غصباً، فالعميد على بعد خطوات قليلة ينتظرني. الوحيد الذي ينتظره دائماً.
- آسف. أسف لتأخري. المسافة من البيت إلى هنا كانت طويلة اليوم.
أستطيع الآن- والآن فقط - أن أتحمّل رذائل الجنرالات والمجانين. سبّ أبي، وأمي، ولعن يوم رؤيته لي. لن أتخلى عن صفاتي هذه اللحظة.
تخليتُ بأحمد شرف، وأخرجتُ له شريط لساني الطويل، وقرأ كل حروفه.
- كان يوشوش زوجتي.تصور.
فعانقني أحمد، وأحسستُ بسعة صدره ودفئه.
اليوم هو أول الشهر، استلمتُ مرتبي على عجل، وانزلقتُ أغني، مدركاً رغم ذلك خشونة صوتي.
شيء غير عادي. لمّة. لا بد من إزاحة هذا الحشد قليلاً لمعرفة الخبر. جسد يغطيه دم. ركعتُ أمسح وجه الجسد، والواقفون يحذرونني. الاقتراب منه مصيبة. تبينتُ ملامحه، هذا الذي أوصلني اليوم إلى عملي، وكان يوشوش زوجتي. كان أحمد يقف عند رأسي، فمسكتُ معصمه بعنف.
- لقد تربصوا به يا أحمد.
ودعوته أن يساعدني في إبلاغ الشرطة، فعندي من الشك ما يقتلني.
- سيدي الضابط. أعرفه جيداً. لقد تربصوا به.
لف الضابط حول الجثة مرات، والتف زملائي أيضاً، ومن واجبي أن أساعد في مصاريف الجنازة. تبرعتُ بمرتبي كاملاً، وجاستْ يد الزملاء في جيوبهم، فصنع أحمد من منديله المحلاوي كيساً. لمحتُ العميد يدس في الكيس بعض النقود، وقد أفسح زملائي له مكاناً ليعاين الجثة أيضاً، لم أعرف أن له قلباً رقيقاً أيضاً. هذه أيضاً زوجتي، ربما أدركتْ بحدسها ما أصابه، أو أنها قد جاءتْ لتطمئن على طلبها الذي طلبته عندما وشوشته به أمامي. إنها تبكي. ابكِ يا زوجتي. إنه عزيز علىَّ أيضاً. لقد كان سعيداً، وأيقظني من النوم هذه المرة بأن همس في أذني بتحنان، وتبسّم. فتش الضابط عن أشياء، حتى عثر على أوراق كثيرة. مسك البطاقة الشخصية، وقرأ بصعوبة بعدما مسحها من بقع الدم.
- من له صلة بممدوح عبد الستار؟!
الوحيد الذي رفعتُ يدي، وكنتُ متعباً جداً، والعيون تخلع عني ملابسي، وقد التف حولي الزملاء، والعميد. قال الضابط:
- من أنت؟
فمسكتُ حافظتي منعاً للإحراج، وصوبتها أمام عينيه، ولم أقو على إخراج بطاقتي الشخصية، فأخرج الضابط صورة من بطاقتي الشخصية، وكان مكتوباً فيها: ممدوح عبد الستار. موظف بوزارة الدفاع، فاعتمد العميد صورة بطاقتي الشخصية، وكان أحمد شرف يعطي زوجتي كيس النقود.