نواح صامت

مرمر محمد عبد الجليل : نواح صامت


ثمانيةُ أعوام عجاف مضتْ، مذ أن ذبلت روحها، إعتلى الأسى قلبها، وطغى عليه الجفاف، مذ أن سلب الردى حياتها وفرحة عمرها ، ضحكتها وفلذة كبدها إبنها الوحيد.
جلست تلك الأم الثكلى هزيلة الروح على كرسي مقابلة النافذة في تلك الحافلة، تصارع بعض من دموعها التى أصرت على الفرار من عينيها، تحاول كبت أحزانها ووجعها على ما فقدت، ولكن الذكريات لم تدعها وما أظنها تركتها يوما وشأنها، إنهار ذلك الثقل الذي بقلبها وبكى فخانتها العين وأدمعت، تسللتْ الدموع من على خديها الحمراوين ، فهي لم تجد من تَبُح له بما في قلبها ويحتضنها وتبكي على صدره علَّها تجد السكينة والطمأنينة، لم تجد من يأوي روحها الثكلى ويهديها الأمان، تضايقت ويكأنَّ الحياة رمتها بكل أثقالها، على الرغم من ضعفها إلا أنها ما زالت تحوى في حنايا روحها بقايا قوى ، كانت تتمتم ببضع كلمات علت على مسمعنا :
-لطالما ما حاولت الإنزواء بعيدا ، والهرب من نفسي ومن هذه المدينة ،لا أبتغى شيئا سوى أن ألملم شتات روحي ، أن أعود إلى الحياة إن كانت هناك حياة ، فالموت الذي جاء صامتا ، وسلب عن طفلي الحياة بات لا يرهبني ، ولكن هذي الجدران تحوى صوته ودقات قلبه ، كيف مات ، وكيف تفرق شملنا ؟
قالت هذه الكلمات وقد خنقت العبرة محجرها و بإبتسامة شاحبة ، باهتة استرسلت حديثها: بناتي هن من أصررن علي ، لم يدعنني أهرب وقد زدن بالإصرار علي ،طويت على قلبي لأظل معهن ، وها أنا اليوم ذا تائهة عن نفسي ، وما زالت ذكرى وحيدي تحاصرني وكأني فقدته بالأمس لا بل اليوم ، أو ليس الأمس كاليوم ؟! خارت قواي مرارا ومرارا ، ولو كان العمر يهدي لوهبت كل عمري له ، فلا حياة بدون روح ، وانا التي فقدت روحها مالها بالحياة ، بت جثة هامدة علا على مهجتيها الشجن و أعيتها المآسي وطالت الأحزان عليها ، أما ما دفعني للمسير هن بناتي ، وقد لا يطول هذا المسير .
صرخت من القلب "آآواه"  وأمطرت مقلتيها ، وكأن شيئا بها قد تمزق وبكى قلبها ، بكت وظلت تبكي كل هذي السنين ويأسرها الشوق إليه والحنين ، أخرجت من حقيبتها  قطعة من قماش فاقعة الصفار ، تحاول إيقاف هذا الإنهيار ،  ثم حاولت جاهدة بأن تبتسم مجددا ، ولكن ثغرها نسى كيف يبتسم .

*كاتبة من السودان 

تم عمل هذا الموقع بواسطة