احمد الشيخاوي : الشاعر الذي اغتالته قصائده
في القول الشّعري المُحلّى بالنفس الثوري، تجثم الصور الأكثر هشاشة وتعقيدا وتركيبية ، ضاربة بتكعيبية جذورها في معادلة الحقيقة والإنسان.
هو إشباع إبداعي قد تستعيض به الذات عن حياة الفقد واختناق الحلم المشروع، حين لا يترك أمامها سوى خيار التمرّد كضرب من احتفاء بأحقية الوجود،تصدّيا لانتهاكات وثنية وثأرا لكرامة مهدورة ومُناهَضة لراهن مكابدة الاضطهاد والانكسار.
نضال مرهق تحاول عبره الذات أن تختزل دربها إلى الخلاص وبعض ما يرمّم من حولها عالم القبح والسّلبية والنقصان.
عبر التاريخ نجد هامات تدرّجت في التعاطي مع الإشكالية قيد الرّصد ،سوف نطرق أبواب أحدهم .
هؤلاء العمالقة أقول،الذين ركبوا موجة الانقلاب في أبعاده الايجابية، على النظم الترقيعية الباعثة على الاستلاب والمباغتة في الحقّ والكرامة والحرية والإنسانية والوجود إجمالا على مختلف تجلياته.
شخصية ذروة في مشاكسة الإيديولوجيات الباردة العاصفة برغد ورقي الذات،انتقيناها من العهد القريب جدا،إنه شاعر الانكسار الأول،والذي أهّله إرثه الإبداعي الوازن، لهذه الاستضافة الرمزية التي نحاول من خلالها مساءلة جيل بأكمله،اختزل أحلامه الضائعة والذابل الراحل المقيم في الذاكرة والوعي ،الشاعر التونسي المبدع محمد الصغير أولاد احمد (1955 ــــ 2016 )والذي ناضل بكل ما أوتي من قوة وحدّة بصيرة و ثقل،ضدّ “لوبيات” قهر الشعوب وساسة استنزاف خيرات الأوطان ، نكاية في نزيف مشاطرة هؤلاء أسيادهم مغانم وفيرة، للشعوب العربية أولى بها،لا جحافل من يدورون في فلك النفعيات والأنانية المريضة والحماية الرّخيصة، يقطفون ثمار جهود غيرهم دونما كدّ أو عناء.
بمختصر العبارة، لقد حاول شاعرنا أن يصون عرينه ويجنّبه التلطّخ بنتانة العار ،على نحو فسح لقصائده أن زأرت بقوة وجاذبية أيضا، حدّ مناطحة أسقف الإحراج والإزعاج الذي حاصر كواليس أصحاب القرار في رسميته وأعلى منابعه ،مذ نبتت لشاعرنا ضرس العقل كما يقال،ما حدا بهم إلى اعتناق منطق استرضائه وملاينته، متوهّمين أنّ بالإمكان شراء صمته وتبديل قناعاته لصفّهم، لكن هيهات …
فعصفور الوشاية الجريح هذا،حتّى آخر رمق من حياته، ظلّ متشامخا مزدانا بعنفوان ذاتي، واشما علياءه بزقزقة نارية مقلقة تضع فوق الرّؤوس المصالح الوطنية مهما كلّف الأمر من ثمن وتضحيات،تجعل سائر الخلق فوق تراب الوطن المطعون، سواسية كأسنان المشط،و في صلب الانشغالات والهموم، تنصب المآرب المجتمعية دانية القطوف لمجتمع برمّته،بحيث استطاع أولاد احمد بعيد أشواط كابد فيها شتى ألوان المساومات والمضايقات الخسيسة،وأمكنه تأسيس تجربة شعرية مستغرقة للخطاب الثوري الواعي،وفق شاكلة أتاحت لمنجزه الذيوع والتجاوب البالغ و تبوأ الحيّز المشرّف في سجلاّت الخلود.
يكفي أنّه تنبأ بالثورة التونسية التي مثلت فيما بعد شرارة وعدوى لبضع دول مجاورة أخرى، ولو أنها اغتصبت مع كامل الأسف، أي تلك الثورات، وأجهضت في أولى خطواتها إلى آفاق الربيع العربي الأخضر المؤذن بانعتاق وشيك لشعوب كابدت ولم تزل ، من الذل وهضم الحقوق والكرامة وتعطيل كافة مناحي الرقي والنماء، عدل ما يذوب له الصخر وأكثر.
شاعر ثائر، عاش كما مات وفيا لقناعاته الرّاسخة، مخلصا للقصيدة في طاقتها الرّهيبة و غائيتها المبهرة ،واستيعابها لمعاناة وعزلة وانكسار الذات، وأيضا في تسربل متونها بتقنية تخليق السياسي للثقافي والعكس صحيح.
له في الشعر:
نشيد الأيام الستة/ 1984
ليس لي مشكلة / 1998
حالات الطّريق / 2013
غادرنا في يوم نحس ،وآخر قوله من الدنيا، قصيدة تبرّجت ليلة عرس جنائزي،بل تنكّرت وتراقصت في أقنعتها المعهودة والمعسولة بنظير ما سوف لن يكفّ جريانه في مخملية وعذوبة،على لسان شاعرنا السّاخط أبدا ، المقيم في الجرح والذاكرة سيان .
قصائد أفلحت إلى حدّ بعيد في ممارسة مكرها المشروع و”ثعلبيتها “على حثالة وبطانة سوء ما تنفكّ تستشري وتتناسل ناخرة لبّ مكتسبات الأمة.
زمرة فاسدة ،الأرجح أنها لن تنقرض ما دامت السماوات والأرض، بيد أن وجودها بالمقابل، هو مجرّد محفّز ليس إلاّ، و باعث على تفريخ أساليب وأشكال نضالية مستحدثة ومواكبة تنتجها القصيدة المناصرة للروح الشعبوية المقهورة.
يقول في نصّ الوداع: [ أودع السابق واللاحق /أودع السافل والشاهق /أودع الأسباب والنتائج /أودع الطرق والمناهج /أودع الأيائل واليرقات /أودع الأجنة والأفراد والجامعات /أودع البلدان والأوطان /أودع الأديان /أودع أقلامي وساعاتي /أودع كتبي وكراساتي /أودع المنديل الذي يودع المناديل التي تودع /الدموع التي تودعني أودع الدموع.].
ليس صرخة في واد ، بقدر ما هي قصيدة في الحضور الذي يخز بشوكة سمّه كل العابثين بمقدّس يكنّى الوطن،تخلد رافلة في عذريتها وعصية على استقطابات أفلاك سبّة العنوسة في آن.
لهذا الغرض ،وصهرا للرؤى في زلال ما صبونا إليه في الفذلكة ،نروم غاية تفجير ملفّ شائك يقارب زوائد وبائية ارتبطت بالانتشار المحموم لقصيدة النثر ،لا في اطّرادها الجمالي المدبج بتمريرات خطابية تعالج عن وعثاء وحرقة إبداعية قضايا حياتية وإنسانية مركّبة،وإنما أيضا تستفزّ آل المروق عن سرب كتابة راقية تزهد في الإسفاف والاستسهال والابتذال.
لهذا وما على طرازه، أرتأينا بعفوية ودونما مفاضلة، استدعاء أسماء شابة لها ضلوعها في المشهد، وتتمتع إلى أقصى حدّ ، بشحنات إيجابية سوف تثري إماطة الحجاب عنها ، سياق هذا الملف دون شك، وتمنحه نكهة مضافة نأمل أن تفتح القلوب قبل العقول على بؤر الخلل بغرض تداركها مستقبلا في التجارب الإبداعية المحمولة على غبننا في تكريم جدّي لقصائد الضاد الطاعنة بإملاءات بناء الإنسان كنواة إلى ما سواه.
تأسيسا عليه، توجهنا إلى هذه الكوكبة النّيرة بالاستفسار التالي:
هل صحيح أن قصيدة ما بعد الحداثة بشكل عام،بلغت سنّ اليأس، إلاّ فيما ينجذب إلى عوالم انكسار الذات والراهن،عبر طقوسيات تمجيد الخراب ومشهدية القبح، والنزوع صوب آفاق شعريات مقنعة أخذت ملامحها في التّشكل ومجاورة لمستويات صناعة المثالية والطوباوية المرتجاة من تجارب جريئة باتت تقودها موجة شبابية طاعنة بـــ ” مونولوج ” الخطاب الثوري ،الانقلابي إذا شئنا ،والمسكون بلملمة تفاصيل عالمنا المغرق في الدموية والاضطراب والجنائزية والغربة المضاعفة..؟نجرد مقارباتهم للظاهرة على النحو الموالي :
عز الدين بوركة
القصيدة الما بعد حداثية أو خلود “ما بعد القصيدة”
يكاد يكون الشعر هبة الآلهة، أو هبة الأولمب، أو بالأحرى إنه الشيء الذي نمتلكه ونمارسه ونهتدي به بدون أن نعلم من أين قد أوتيناهُ.
يندرج الشعر في خانة الفنون التي ينتجها الإنسان ويهتدي بها إلى عوالمه الداخلية وعالمه الخارجي، إنه شيء “منا” من حيث هو اللغة شفوية ومكتوبة، ومن حيث أن اللغة هي “نحن”. فلا يمكن أن نميّز بين القائل والمقول، بين الشعر والشاعر، بين اللغة والإنسان.
“الشعر ضرورة، وآه لو كنت أعرف لماذا؟” هكذا كتب ذات يوم الشاعر الفرنسي جان كوكتو وهو يتحدث عن هذا الشيء الشفاف المسمى شعرا. لا أعلم قوما لم يكتبوا الشعر ولم يجعلوه أمرا مقدسا، أو جزء من طقوسيتهم وحياتهم اليومية، ولا أعلم قوما مثل العرب قدّس الشعر كما قدسوه. فالقصيدة عند العرب تتجاوز اللغة أحيانا كثيرة، بل إن اللغة صنيعة القصيدة، فيصير الواقع كله لغة ورهين الشعر /القصيدة. من حيث أن الشاعر هو الذي يسمي الأشياء كلها، إنه يمتلك “سلطة التسمية”، هذه السلطة التي يجعل القصيدة مركزا سريا وعلنيا لها. فتكاد القصيدة تصير أداة “ديكتاتورية ” بيد الشاعر، يضرب بها أعداءه ومن يشاء، ومن يجرُأ أن يكون عدوا لشاعر !!.
ولجت القصيدة ما بعد الحداثة، فتجاوزت الصحراء وغنائيتها، وتجاوزت الصراع السياسي والإيديولوجيات وصراعاتها، لم يعد الشاعر هو ذلك الذي يشعر الأشياء ويكتبها، أو ذلك الذي يمتلك حسا رهيفا أو حساسا وعاطفيا، فالشاعر امتلك ساطورا وشاقورا وبندقية، بل دبابات وغزا عوالمَ وأدغالا كانت صعبة ووعرة ومخيفة، لقد فتح أراضيَ لم يكن من المستطاع حتى الاقتراب من حدودها… كتبت ذات نص الشاعرة الأمريكية إيميلى ديكنسون: “حين أشعر وكأنني مشدودة من أخمص رأسي، أعرف أن هذا هو الشعر”، كأن الشعر تجاوز “القلب”، باعتباره مركز لاستشعار والشعور والإحساس عند القدامى، وصعد إلى الأعلى ونزل إلى الأسفل، والتبس لبوسا مغايرا، وولج منافذَ لم يكن توقع ولوجه إياها… إنه الشعر هكذا ينبع من أخمص الرأس ومن أخمص القدم…. فالقصيدة “الما بعد حداثية”، وأهوى استعمال لقب “ما بعد القصيدة” الذي أقتبسه من الشاعر صلاح بوسريف، هي تداخلات لأجناس عدة، لكل جنس قوامه وركائزه وثوابته (التي تنهار في ما بعد القصيدة)، فقصيدة ما بعد الحداثة ليست صنيعة تيار محدد أو أفقا مرسوم سلفا، فليس لها أوزانا تتكئ عليها ولا تفاعيل تستند عليها، وليست نثرا تسبح فيه بعماء. فهي قصيدة تستطيع أن تخرج من ذاك وتثور على الآخر، وتستطيع أن تجمع بينهما في سرير واحد.
ولأن “الفن ابن زمنه” ووليد عصره حيث يترعرع ويكبر ويشتد عوده، فالشعر فن متجدد مع كل عصر وليس رهين القوالب الجاهزة والقواعدَ السالفة، ولأن الشاعر لم يعد يبحث عمن يتبع خطواته كحواريين أو صحابة وتابعين، فلم يعد الشاعر ينتظر وحيا أو نبوءة، بل إنه يبحث عن القارئ المجهول، يبحث عن من يحيا فيما هو يموت. فلم تعد القصيدة أو ما بعد القصيدة تبحث عن أن تصير “كتابا مقدسا”، بل أن تكون “ما بعد القصيدة” لا غير.. تحيا في تجدد وتوالد مستمر وتغير لا ينقطع، بفعل القراءة المتجددة لها والمتعددة. هذا ما يهب القصيدة إكسيرها الفنيقي، إذ تصير خالدة وإن تم نسيانها بين أدراج المكاتب وعلى رفوف المكتبات، فــ”الما بعد قصيدة” تبحث عن أن تمتلك صورا شعرية بألوان الحرباء، صور تتخذ أشكالا تتجدد وتغيّر جلدها وألوانها وشكلها مع كل فضاء جديدة، مع كل قارئ جديد. فالقصيدة الما بعد حداثية لا تهاب نفسها لقارئ واحد، إنها “مومس” -بهذه العبارة- ولا تشيخ، قادرة على أن تمتلك قلب أي قارئ وأن تأخذه إلى سرير رغبتها، لتتولد لذة من شبقية القراءة، وتنتعش هي بروح جديدة، تسرقها من بذهنية القارئ المتحمس لإفراغ لذته سريعا أو بطيئة. وكم أهوى اللذة البطيئة ! تلك اللذة التي تُطهى على نار هادئة لقصيدة.
فكتابة الذات أو الذاتية والانزياح نحو الهامشي والزائل والعابر éphémère، لقد عاد الشعر وعادة معه القصيدة وما بعدها إلى عوالم الصوفي وسلالمه وغموض تعابيره، فمن الغموض تتولد غيمات ماطرة بأسئلة غزيرة، تجعل القارئ ليس أمام نص لا يستطيع فكّ شفرات كما يتوهم الواهمون، فبئسا للواهمين ! بل إنه نصٌ ممتلئ بقراءٍ نائمين، على كل قارئ أن يجد ذاته النائمة ليوقظها. فليس غرض الغموض صناعة الغموض، بل جعل القارئ يسبر أعماق ذاته ويبحث عن نفسه بين الكلمات، التي تأتي كمطبات الذات. بينما يهوى شعراء ما بعد حداثيون آخرون، كتابة قصيدة شبيهة بنهر هادئ السطح، لكنه هدار في أعماقه وعميق، وكم من عجائب في النهر لا توجد خارجه !. بينما يهوى شعراء آخرون أن يكتبوا قصائد شبيهة بالمحكيات عامرة بالأساطير المعاصرة والغابرة، تشم فيها حساء القرون الوسطى وطبخ العظام في كهف استوائي، ونكهات إيطالية أو فرنسية أو مشرقية أو في أقصى دول القارة الفتية، نكهات تمّ اكتشافها للتو. بينما لا يكتب آخرون سوى “ما بعد القصيدة” لا يهمه أي شيء من هذا أو ذاك، بل لم يسمعوا سوى ما يكتبون.
تتعدد أساليب القصيدة الما بعد حداثية، من سرد ومحكيات ونثر وغنائية داخلية، وحوارية (منولوغات) والجامعة بين الموزون والمنثور، والبرقية والشذرية والسريالية والكاليغرافية والمتشظية، وذات الصورة المركزية، والتكرار، والمأثور…. فليست كما يعتقد مُعتقد واهم أن قصيدة ما بعد الحداثة أو “ما بعد القصيدة” هي قصيدة النثر فحسب، بل إنها تتجاوز القصيدة المنثورة والموزونة والمُفعّلة إلى التداخل والتجانس، بل تجاوز كل هذا إلى الشعر بالمعنى الأدق والأحق، إلى الصورة الشعرية وحلم يقظة كما يحلو لباشلار وصفها. وما ميلها إلى الجنائزية والموت وقدسيته، إلا رجوعا لما يحمله هذا الأخير من قلق وجودي لا ينزاح عن كتف الإنسان /الشاعر، فالموت مطاردنا المحتوم، إننا لا نولد إلا ومعنا العداد التنازلي للموت. أما الخراب فهو شكل العالم الخارجي، والفوضى معناه، فلا نظام إلا الفوضى، أما الشاعر وإن يوظف الخراب والجنائزية والفوضى فليس لغرض في ذاتها، بل إدراك منه لدوره كمحارب للموت، سلاحه “خلود القصيدة”.فالقصيدة الما بعد حداثية، لا تعيش أبدا اليوم نهايتها أو حتفها أو انهيارها ولا “سنّ يأس” لها. فهي مازالت فتية وستطل شابة لا تشيخ، فلها إكسيرها الفينيقي، الذي يحيها قبل أن تموت، إنها امتلك الصورة الشعرية وتجاوزت القولبة والتجنيس، واستحال القبض عليها في قفص، إنها الآن حرة طليقة، لا أرض لها ولا سماء والبحر ولا بر. إنها ابنة الهواء وابنة الروح، فلا مستقر لها إلى يوم يُبعثون. هذا ما يجعل الشعر اليوم شعرا “مابعديا” ليس رهين اللحظة أو الزمن أو حتى العصر، وليس رهين انتفاضاته وثوراته وحتى لغته، إنه إذ يأتي من اليومي والهامشي والذاتي، ليحفر أنفاقا في الأعماق ويسبر الفضاء ويتحرر من القيود، فتصير صُوَره تُجَدّدُ نفسها مع كل “جيل”. فما بعد القصيدة أفق متجدد.
نهيد درجاني
عوامل عدّة أتاحت للقصيدة الحداثية الاستراحة على كرسي عرشها
وهل وصلت القصيدة العربية إلى الحداثة واتكأت على مسند كنبتها الوثير،لتنتقل بالحديث إلى قصيدة ما بعد الحداثة؟
فوق ذلك،هل كانت ثورة الخروج عن الخليلية والعامودية،وعن الروي والقافية ،كافية للعبور إلى الحداثة؟
إنما أطرح الأسئلة كهاجس داخلي،ربما كقلق، أو وساوس ليست في محلّها، لا أكثر.
في اعتقادي،المواضيع والأبواب الشعرية،قد استنفذت شعريتها عبر آلاف السنين،وأن حبرا غزيرا قد أُهرق في معالجات غائية الشعر العالمي وليس العربي فحسب،حتى أصبحت ظروف الإبداع أشبه بالقشة الصغرى في جبال الهشيم،وبات التكرار والاجترار والاجتزاء من أبرز السمات طغيانا على عصرنا التعبيري،لذلك فأغلب الظنّ أقله من وجهة نظري،يكمن في كون الحداثة تراميا على ما هو آت، سوف تستريح على كرسي عرشها،اتكاء على تخصيب التجربة من خلال عدة محاور أستحضر منها ما يمكنني جرده في الموالي:
1ـــ التجريب
بمعنى اعتماد النص المفتوح على الفكرة، على الهاجس، على الهمّ الفردي والجمعي.
2ــــ اللغة
هي في أمسّ الحاجة إلى الاستفزاز كأقصى ما تكون الدّغدغة،إلى قرص ملاين لأجل تمسيد وتمديد قواعدها، حتّى لا يتختّر دمه بما يعني ذلك التلاشي والانقراض.
3ــــ المشهدية
استثمار أو توظيف المنظور و المحسوس والملموس الآني،وعدم استرجاع الأزمنة.
4ـــ الشّعرنة
قد يكون الميل،وقد تكون الموهبة إحدى عناصر البذرة الشعرية، إنما هذا التتويج الشعري هو خلاصة عمل يومي وسعي دائم واستنفار محموم للأحاسيس والمشاعر،وتوهّج مستمرّ لبؤبؤ العين.بعدّ الشعر عصارة خلاصات ،وبصمة روحية عميقة، لذا فهو يفتقر على الدوام إلى مواكبة قد تصوغها حواس ضمنية متنوّعة مسعفة في استيعاب شاف لأدغال خبئه وكنوز مرجانه.
كاظم خنجر
قصيدة تمجيد الخراب ومشهدية القبح وغيرها ولّدتها الحاجة الثقافية بدرجة أولى
أعتقد بأن الشعر لم يستجبْ بعمق لهذه التحولات النقدية والفلسفية بشكل واضح كما بعد الحداثة مثلا ، فأغلب المقترحات جاءت فردية وفق المختبر الشخصي لأدوات الشاعر ، وفي غالبها أخذت طابعا شكليا يتمحور حول التركيب اللغوي والتوزيعي لبنية النص أو العمل على الخرق الإجناسي . كل هذا تم بعيدا عن المحتوى الذي ظل معلقا ومهملا .
ما يخص توثيق الخراب ومشاهد القبح و الهامش و غيرها من المظاهر الخطابية لم تأتِ استجابة لمقولات ما بعد الحداثة بل أتت كشك في القيم الموضوعية التقليدية التي هيمنت على تأريخ الحداثة النصية ، وكحاجة ثقافية أكثر منها أدبية .
محمد العرابي
قصيدة المرحلة بوصفها مرثاة أقلّ من سوداوية الحياة والعالم
بعيدا عن هاجس تصنيف: قصيدة حداثة أو ما بعد حداثة، تُرجِّح غالبية النماذج الشعرية التي قيض لي أن أقرأها، في الأقل، المنحى المأساوي والقيامي الذي ألمع إليه الاستبيان الحالي. فهل ينهض هذا دليلا على غرق الشعر فيما غرق فيه عالم الانسان في بحر لا قرارة له ولا عودة أو خلاص، بحر يضاهي صحراءَ لا نهاية لها، لا تتراءى على صفحتها سوى الخرائب والأنقاض ولا يلوح المعنى من بواطنها إلا كبرق خُلَّب كاذب؟ وهل يجد عصر المراثي الكبير ما يسند هذه السوداوية التي تزحف على العالم والحياة كقدَر محتوم؟
منذ أن قبض نيتشه على جمرة الشعر، وأعلن صراحة عما ظل يعتمل في صدور الشعراء والفنانين لقرون وربما منذ أن نظموا أول بيت شعري ونقشوا أول جدارية أو منحوتة،تُرك الإنسان في العالم الحديث لمصيره المأساوي وحيدا أعزل إلا من كلمات يرثي بها نفسه وما يحيط به من أشياء. وإذا ازدادت اللوحة قتامة وغرقت القصيدة في التشيؤ والقبح وأوغلت في قيح الواقع فليس ذلك خطأها. فقد وجد الشعر نفسه في مواجهة انهيار منظومات العالم القديم محروما من كل عناية سماوية أو أرضية. وجد نفسه وجها لوجه إزاء تعميم صنمية السلعة وتجريدها لتجرف في طريقها العقل والفكر وكل ما من شأنه أن يقاوم تيارها الماحق. كون الشعر من طبيعة لا تستجيب إلا لنبضها الخاص الذي يرفض كل تعليب أو قولبة ضاعف مأزقه وأزم العلاقة التي تربطه بواقعه الغريب والملتبس. الفن بصفة عامة، والشعر على وجه الخصوص، أمام واقع عبثي، مرعب وخال من المعنى، وفي غياب المنظومات الميتافزيقية الناظمة لثنايا الوجود، توجَّه صوب الواقع، صوب الأشياء ليعري العبث والرعب واللامعنى الذي أصبح يسكن العالم، رافعا عنه أقنعته واحدا واحدا، بما يضاعف غربته ويفضح زيفه ولا معقولية آلياته التقنية وسلطة مجتمعه المطلقة.
يتشظى الشعر ويباعد نفسه عن النفس الملحمي ويغرق في مستنقع القبح والقسوة ليدين عالما متشظيا وعنيفا ولا إنسانيا وفي طريق عودته النتشوية لا يتوقف إلا عند الزائل والمنسي والمفتت، عند طلل الإنسان الذي كان هنا، في زمن ما.
*يتناول المقال سيرة الشاعر التونسي الراحل الصغير أولاد احمد، معززا بشهادات لنخبة من الشعراء العرب حول غائية الشعر الحداثي إجمالا.
*شاعر وناقد مغربي