علي السباعي : الحياة في القمامة
وسط أكياس النفايات أقبعت امرأة متلفعة بالسواد ، تبعثر ما في الأكياس من قمامة ، تلتقط أصابعها الرفيعة كِسرَ الخبز بدراية ، تلملم قشور الرقي وتزيل عنها بقايا أوراق الشاي ، لتضعها في خرقة تحت عباءتها ،
في كيس أخر تجمع بقايا الرز المنقوع بمياه القمامة القذرة ، جذبتني حركاتها ، غزت جسدي قشعريرة الازدراء بفعل رائحة القمامة النتنة ، تساءلت بصوت عال :
ـ عمٌ تبحثين يا هذه ؟
بادرتني بعصبية وأوضحه أبدت أن انزعاجها مني لمناداتها بهذه :
ـ أنا اسمي شهرزاد .
أعدت سؤالي عليها ثانيةُ :
ـ عمَ تبحثين يا شهرزاد ؟
تجاهلتني ، راحت أصابع يدها الواهنة تفرز النفاية عن بعضها كأنها جيولوجي ينقب في التراب العصور السالفة ،انضغطت كبالون هواء بفعل أيادِ عابثة ، عندما شاهدتها تجمع بقايا الأكل الذي لوثه التراب ، استمرت في التنقيب ، فعرضت عليها مساعدتي :
ـ هل أساعدكِ بالبحث عما أضعته ؟
يفيض عجزي ، ويستهلكني تجاهلها ، انبعثت كلماتي المتسائلة من روحي كالغبار الذي يتصاعد خلف العاصفة :
ـ ماذا أضعة ؟ أسواراً من ذهب أم قلادة من الزمرد ؟ أم تراك أضعت مفتاحاً ؟ أم …….
كفت عن النبش ، رمقتني بنظرة تتفجر كمداً ، قالت وهي تلوح بيديها المتسختين :
ـ أبحث عن بقايا الطعام وقطع الخبز ؟
واصلت عملية تقليب الأزبال ببراعة وحدق ، كأنها عطارً امتزجت عنده مواد العطارة ، هب تيار الهواء محملاً برائحة نتنة منفرة ، رفعت قامتي متفادياً الرائحة العفنة ، لأطلق كلماتي الخبيثة :
ـ الذي تجمعينه من القمامة يكفي قطيع أغنام ظلت الرائحة العفنة تملأً أنفي ، وهي تملأ كيسها ببقايا رزِ ملوث بالوحل والأوساخ ، سألتها متألماً :
ـ أذا كنت تملكين قطيعاً من الخراف ، فلماذا لا تشترين لهُ علفا جيداً ؟
لماذا كل هذا التقتير ؟ أنه بخل .
نظرت إلي بعطف ، شاهدت عينيها النرجسيتين تغرقان في الدموع ، فزادها الدمع مهابة وهي تبدو في الثامنةُ ُ والثلاثين من عمرها ، امتطت وجهها البرونزي ابتسامة ازدراء ، قالت بصوت متحشرج ينز ألما :-
ـ أولادي السبعة هم خرافي التي أسعى لجلب لقمة لهم يسدون بها رمقهم أثقلت كلماتها صدري وجعا ً ، تكورت بداخلي قبضة من غضب أخذت تكيل لي الكلمات تلو الكلمات كوني جرحتها ، راحت دموعها تنسكب بصمت ، أصابعها مستمرة بتقليب القمامة ، تدفقتُ كلماتها لتفصح عما خلف السدود السود التي حجزها الجوع زمنا ًُ الذي أراد اغتيالها ببقايا نفايات :
زوجي فقد ساقيه الحرب حرب شهريار الأولى ، تركته عاجزاً ، أخرج مع أولادي نبحث في قمامة الأغنياء عن أشياء تسد رمقنا . أتعلم أصبحنا نميز طعم القمامة في كل الفصول ؟
فقمامة الصيف تمتاز بقشور الرقي الطيبة .
مكبل بالحديد جسدي ، لجمت ُ بكلماتها المؤلمة ، أيقنت حينها بأني سد يحتجز الفراغ زمنا ً ، أتاه اليوم الذي تصدع فيه وتهشم .
نعم . لقد تضعضعت ، بحثت في جوفي عن ، كلمة ، عن حرف ، لم أجد سوى الدموع تملأ عيوني ، وبقايا صرخة منسية خلفها السد ، أبديت نصحي لها :
ـ أحذري ما تجمعينه ملوث يا شهرزاد وقد …. قاطعتني كدبور أحس بأنه محاصر فشن ً هجوما ً أعمى :
ـ ما الفائدة من حياتنا ؟
حياتنا عبارة عن عذابات عديدة ، جوع متواصل ،حرمان بلا حدود . قل لي : ما الفائدة من أن نعيش ؟
حدجتهُ المرأة بنظرة متوسلة أترجى فيها صمتها ، عسى أن يساعدني في تبرئة نفسي من ذنب لم أشارك في صنعه ، تصاعدت لوعتي راحت تحفر لها قبراً في وجداني بأزاميل حادة ورفيعة فاض قلبي بألمها الذي حملته كلماتها ، وهي تستطرد :-
ـ أبنائي جياع ، وبكاؤهم يملأ المكان رعبا فلماذا يعيشون ؟ الموت رحمة لمثل حالتنا … الموت يكون رحمة !!
أدركت لأول مرة في حياتي بأن الموت يشكل الخلاص والراحة التامة من الحياة ، وحياتنا ليست سوى وهم نعيشه ، خطفتني كلماتها ثانيةً ً إذ تعمدت إثارتي بقولها :-
ـ الموت يرفض زيارتنا رغم سعينا له في تنقيبنا عن الموت بين القمامة التي نقتات عليها .
غرقت في بحر لا قرار له ، راحت الذاكرة تقاوم الفرق متمسكة بالحياة بقشة تدعى : صنع الكلمات أطلقت شهرزاد تنهيدة ، قالت بحسرة :
ـ أتعلم أن هذه القمامة التي تجود علينا ببقايا الطعام تعود لمن :
ارتسم على وجهي تعبير المتشكك ، خفضت بصري متحاشيا ً نظراتها المتفجرة حقيقة ، أشارت إلى قصر فخم أمامنا عبر الشارع ، أجابت :
ـ أنه قصر الأمير شهريار !
تركتها لحياتها في القمامة ، وعدت إلى قصري المنيف .
*قاص من العراق