مقهى بيكاسو

نور الدين التيجاني الإدريسي : مقهى بيكاسو 


بيكاسو ... بخطى ألوانه بين أزقة تازة ورائحة  حلوى الشباكية  تنعش أجواء شعبان ودقات القلب تعلن الحكاية ….

وقفت أمامه والخجل يربك وجنتيها الموشومة بأزهار الربيع ، بلهجة شامية أفشت لغة السلام في زمن لغته الموت وقتل الحياة جعلها تكفن نفسها بوشاح الحداد والمشي حافية على أرصفة الضياع في أوطان الخريف المزكومة بغمولة الكهوف ، لم تصلها بعد نسائم الربيع المؤجل قهرا بعربدات الرعاع  المخمورة  دوما بدماء النعاج …

جلست بجانبه دون إستئذان وعلامات السفر البعيد  تشع من أغوار عيونها الملفوفة بوشاح الحزن  وبصوت مبحوح هل تكرمت بإفطاري بكأس شاي وشيء من الخبز ولو بدون ذهن لم تكمل مطلبها حتى نادى على النادل الذي احضره الفضول قبل أي شيء آخر  طالبه إفطارها حسب مشتهاها كأس شاي منعنع وخبز أحرش وقليل من زيت الزيتون  لتداوي جوع الطريق في اتجاه البعاد .

         بعد أن أهمدت شيئا من جوعها ودون أن يسألها شيء أخبرته بحشمة عن نفسها إمتنانا على جميله إسمي ( مريم ) من مواليد تشرين 1995 بحلب سوريا الوطن المرهون بين مخالب الضباع ، غادرت الدراسة قهرا من مستوى السنة الثانية بشعبة الفلسفة ، يتيمة الأب المستشهد في حرب الجولان وفاقدة للأم وأنا في سن القماط  .. قبل أن تكمل حكيها وحتى لا تنزف أحداقها مزيدا من الدمع سلمها منديلا ممازحا إياها بلهجته المغربية " إلى جرحك المشرق المغرب يداويك "إبتسمت مرغمة وكأنها ترغب في البقاء إلى جانبه لتحكي له عن رحلة الربيع الذي داست أزهاره أقدام الخنازير وأصبح خريفا وشتاءا باردا إلى الأبد..

ودعته والشكر لا يفارق محياها حتى اختفت عن لمحه بصره كمجنونة لحظة المغيب تاركة الأسئلة الموجعة تحاصر لحظاته التي لا تخلو دائما من نزغ السياسة ..

في انتظار موعد الطبيب الذي جاء به مرغما إلى هذه المدينة المنقسمة على شطرين حاول أن يلغي ذهنه وتفكيره ولو للحظات بالسير وسط الزحام وصراخ المبتضعين وفوضى السير وهجو الكلام ،حتى وصل عيادة الطبيب التي تعج بالأنين وأمل البقاء  قدم نفسه لمساعدة الطبيب وجلس بالانتظار ينتظر مع المنتظرين .

لم تمضي من جلوسه إلا دقائق حتى ناداه الطبيب ليفسر له ما خطته بيانات التحليل ألمخبري التي أفرحته كثيرا لكونها لا تحمل وجعا آخر يدخله في متاهات المقاصل لمن يعتقدون أنهم للرحمة ملائكة.

    إستقل سيارة أجرة وفي انتظار شبه القطار الذي سيقله إلى منطلقه ولج أحد المكتبات باحثا بين رفوفها عن عنوان ثقافي أو فكري قد يرضي نهمه المعرفي ، لكنه لم يجد غير أشباه كتب جلها عناوين للموت وعذاب القبر ودعايات إشهارية لمنتوجات عقارية و لمواد استهلاكية ... وصفحات بالخط العريض لقرائي وقارئات الحظ والكفوف وبائعي  الأوهام وعناوين أخرى تطبل وتمجد الزعيم الحزبي وحكومته الرشيدة..

بعد خروجه متحسرا فكر كعادته آن يلتقط بهاتفه المحمول صورة لنفسه بآخر مكان يودعه بهذه المدينة الجميلة فكان محطة قطارها ، إمتطى على عجل مقطورة بوحي شكلها الداخلي أنها بقطار آت  لا محالة من زمن "الشربون " جلس وحيدا يتأمل من خلف البلور سير السائرين ورواح الرائحين في اتجاهات مختلفة توصل جلها إلى نهايات معينة .

 لم يمضي من الزمن اليسير حتى وصل إلى حيث انطلق فجرا ، نزل على مهل  أدراج  ناقلته وعلامات العياء  تظهر جلية على مشيه  وكأن أنفاس الحلبية أغشت بسحر مقلتيها مكامنه الموشومة بلظى الكلمات وعزف الفراشات  .

في الصباح الأخر خرج إلى مركز المدينة لقضاء بعض أغراضه وبينما هو سائر في تجواله أوقفته صراخات لحشد بشري بأحد ساحات المدينة يهتفون بصوت واحد و بحناجر مبحوحة  " علاش جنا وإحتجنا على الكرامة لبغنا " لم يشعر بنفسه حتى وجد نفسه بمقدمة الحشد الممتد سلاسل أدمية هاتفا وصارخا مجذوبا لضيم الكادحين البائسين الصارخين بين أرصفة وهوامش الوطن متوسلين سمان الرقاب أن يأخذوا كل شيء المناصب والكراسي ... وأن يتركوا لهم بؤس الوطن لاقتسام فقره وضيمه ..

بمكان ليس ببعيد جلس بأحد المقاهي طالبا مشروبا باردا ليبلل ريقه الذي جف صراخا وفي لحظة من أمره وجد شخصا لا يعرفه يجلس بجانبه بدأ يسب مع نفسه الوضع المزري للبلد ممرا كلمات مشحونة بخبث مخابراتي مدسوس سعيا منه لاستنطاقه  بطريقة تبدو أكثر من ساذجة ليعرف هذا الوجه الغريب الغير المألوف لعيون العسس الأوفياء ؟؟ بحركة وإيماءات جسدية توحي بخطابات التحقير نهض وترك جرو العسس جالسا يحتسي فراغات الأسئلة المعلقة ..

في طريق العودة عرج إلى مكان اعتاد زيارته كلما هبت به الرياح  إلى هذه المدينة ليستحضر نوعا من ذكريات المكان حيث كان يلتقي ذات أيام مع بنت " القايد " في أدغال الواد مختفيان عن عيون البصصة والرامقين والمخبرين بلا أجر.. وجد المكان قفارا خال من أشجاره وأجرافه وحتى مائه وأصبح مجرد مزبلة لنفايات المدينة وتلالا من أوساخ الآدميين الذين يدعون الرقي والتمدن وأشياء أخرى...

لم يتحمل نتانة ووجع المكان  والتوى يسارا حيث ممر صغير تركته عجلات الجرافات  نفذ منه إلى الجهة الأخرى من المدينة التي كانت بالأمس القريب  غابات أشجار من البلوط والسنديان ...وأصبحت الآن غابة من الاسمنت تسكنها أجساد بلا أرواح .

لم تصل الشمس مغيبها المعتاد حتى ولى أدراجه لتنتهي رحلته من يومين عاش من خلالها  جمال الصدفة وبؤس المكان ونشوة العافية لقلب زاد القدر من دقاته ..    

تم عمل هذا الموقع بواسطة