د.زينب لوت : اللغة التشكيلية وتشكيل الخطاب اللغوي
* مجموعة(مازالت لدي أحزان أخرى) لجمال بربري
تناولت مجموعة قصصية عنوانها (مازالت لدى أحزان أخرى) لمؤلفها (جمال بربرى)، حفريات للحياة اليومية وتمفصل داخل معطياتها الحركية تتماثل و الحس الفني للكتابة،
تستهل النصوص السردية بوصف للقطط فيتقاطع مع أشعار (بودلير) Charles Baudelaire حول هذه الكائنات الأليفة القريبة من الحياة البشرية تتقاسم معها جوانب مهمة من التماثلات القصدية داخل المحكي.
تُشكل الرواسب الذهنية للناس في الأماكن المعدمة، بعدما اشترى بيتا تجنباً للكراء، لكن طبائع القاطنين فاجأت توقعاته، وبراعة الكاتب في تصوير المشاهد الدقيقة تمثيل جمالي للبساطة وسذاجة الإنسان في توخي معمارية تفسير الظواهر كتحول التوأمين إلى قطط ليلاً.
ارتبط نص (نهار بثلاثة صباحات) فلسفة عميقة للوعي الفطري للإنسان من خلال مرجعيته المعرفية حيث يلتقي الطهر بالدنس أو ما نراه شريفاً ونبيلا وعكسه على الآخرين تصعد تلك الأنانية والإجحاف لترسم خواص التعايش مع الآخرين تنقطع هذه “بكرة تطلع مجرم, وابني يطاردك.
يُخرِج صورة طفله، ويضعها بجوار اللقيط،، ويقول:
نفس البراءة والطهارة، ولكن لا نعلم ماذا سوف يحدث بينكما، ستشتعل حرب قوية، ولا نعلم مَن منكما سيقضي على الآخر؟”ترتيب لمنطق الأحداث مركزا على القيم الدفينة في النفس، وإدراك محور نهاية النص بأنه حلم يداعب الحقيقة.
لا يزال الكاتب يسمع للقاع المنشطر من المجتمع في قصة (شيخ الجبل) يرى البطل المثقف كيفية تدرع الناس حول الضريح فيشكل مجموعة من الصور المتراكمة ما يلفت الانتباه حجم المخيال في رصد المتعاليات الثقافية أهمها:
تثير التراكيب اللغوية حقيقة التمكن الرؤيوي للبُعد الاستعاري بين جانبين من المجاز في قصة (سلامة) شخصية تلتف بالحكايات والمغامرات التي تنتهي بالمأساة العقلية للبطل لكن مواقفه وماضيه يمنح تداعياً للتواصل التخيلي مع المؤلف، واستعارة الكلام لا يقف عند المركب البلاغي بل حين يتداخل الإيهام بالواقع ويجد المتلقي نفسه أمام أزمنة ملتفة حول بعضها تفسر مواقف وتنفي أخرى، وترسم حقيقة وتهدم الجهل، فالكاتب يملك من الحفر داخل الذاكرة الكثير من الأساليب المتمكنة.
تمتلك قصة (ثلاثة نوافذ للحزن) انشطاراً للعواطف المترفة بالحس بين الحزن و الفرح وحين يتغلغل الوجع السحيق في منأى الشخصيات التي نفقد تواجدها تباعاً ما يخصصه الكاتب في هذا النص القصصي بُعد جمالي خلاب من التبطين النفسي والتوافق اللغوي لها، وهذا ما يجعل المتلقي يرى العمل الفني بعجاب البلاغة ومنبر الحس الموغل في كنف التواصل خارج عالم القراءة فالمقروء في نصوص (جمال بربرى ) منطوق حركي وصوتي تكاد تسمع الخطاب من شدة العمق والتفصيل والتدفق البصير والمبصر للشعور ولانفلات الكتابة في هسهسة الكائن في مقطع :”هزمتني عندما دخل بقوة مرض السرطان إلى جسد طفلتي الوحيدة، ضربتُ يدي في جيبي؛ فخرجت بيضاء من غير سوء. لم تقو قدماي على المشي والسفر إلى حيث المدينة، فبدلا عن أن أعالجها؛ دفنتها بجوار أبي.” تجسيد لآليات التجريد اللاوعي كانكشاف آخر للحقيقة ، لأن الأفكار لا تتداعى وإنما تصنف لنفسها مركزا للوجود ،وميزة للتواجد ، وهذا ما نسميه الفرادة.
تمازج الواقع و المتخيل في الشخصيات يندرج في قصة(…ثم عاد) عودة ميت تنتهي بالندم بعدما وجد كلّ ما ضحى من أجله تناثر بين مناسك المكان، وانفك يبحث عن مخرج للحزن الذي تملكه، والمؤلف يرتفع نحو منمنمات تصف دقة الأفكار المتنامية بين الذاكرة والحاضر بعد موتها، تصادم متسارع بين الأحداث يسقط نماذج متعددة يستعيد توظيفها وارتقاءها العلوي والدُوني في نفس الوقت.
للمال صورة عند المتلقي وللجنيهات حكي عند القاص في نصه(ثلاثةُ جنيهات) أين تتقاطع الحياة اليومية بين الغباء وعُسر الحياة وجريمة القتل، و الكاتب يمسك بالحياة البسيطة ويمنحها بريق الفن في بهرجة العامل الحواري بين (الحاج سلامة) و(سيد) الذي يشتغل عنده والشرطة المقيمة في تحقيق أثر المجرم، كما يضيء الجانب الساذج من الشخصية التي تود إرضاء الجانب الأقوى دون التفكير في عواقب إيذاء الذات، حيث تصبح آخر ما يهم، والفنان باعتباره محركا للعالم في اختزال الظواهر، استناداً لموجوداته.
ترتفع العبارات الدالة على أفق التوقع أو التطلع في قصة (طلاق سوق) ليثمر عن علاقة الإنسان بالحيوان(الحمار) وضرورة البحث عن بدائل حين يفقد الكائن صلاحيته يكون ضرورة مساومة وجوده طلاق بين زوجين، لكن المفارقة تمكث في خداع الماس وإيهامهم.
الوصف هي براعة التّمكن من الأشياء قصة(صلاة) تنضيد المواقف في تناقضاتها المرتبطة بين العقل الباطن والظاهر يمثل المخفي أمام الآخر كما ينظم مسافة الزمن و المكان والحركة حيث يحكي: “بخطواتٍ متثاقلة، وذهن مُعبَّق ببقايا دخان النوم الأزرق قام إلى الحمَّام، توضأ، وخرج من البيت إلى الزقاق؛ كان العالم يبدو كحلم يراه بأعين نصف مغمضة، لم ينجح الماء في حمل بقايا النعاس على الانقشاع” يرتفع الصوت الداخلي للمنفتح الزمني نحو الماضي، أين يلجم الإنسان أسوء الأفعال والمواقف التي يراها ويتسامر معها وقت الصلاة فانقطاع التواصل بين الصدق الإيماني والوصول للانسلاخ الشعوري بين المقدس والمدنس.
يبدع الفنان ليقاوم قسوة الوجود في سرد جمالي للجمال الفني تنشطر (إبداع على رصيف الحياة) حين يصطدم الفقر بالمنحى المترامي في استغلال الطاقة الشابة لبيع موردها الإبداعي، وهذه الظاهرة تؤرق المتلقي في توافق النص مع شخصية مبدعه الذي اضطر بسبب قلة حيلته تحقيق عالمه الفني ولعل الإغراء المادي جعل الشخصية تتنازل عن حقها الفني المتواجد في النص.
التزم السارد في قضايا مميزة ربما في معناها الإنساني أو جرأة توطيد العلاقة بينه وبين العالم الضبابي الذي نراه ونواري أنظارنا عنه لكنه بجرأة فنية يمتثل أمام رؤية جديدة لتجويف التركيب والارتقاء نحو دقة الفكرة في نص (إرث قديم) يظهر العنوان متماسكاً لا يحمل كل تلك الدلالات المرتقبة لكن القارئ بحكم شغفه بكشف المستور يتغلغل داخل المحكي”كن أنت فقط ..
يرفع الستار الأسود عن حجرتي الصغيرة المتهالكة الجدران معلقة عليها صورة قديمة باهتة الملامح، الحشرات والنمل يسيران بخطوات رتيبة، ولا أحد يهدد مسيرتهما، فأر صغير يأكل بقايا الخبز الجاف.” الأصوات والخطابات تمنح جدلاً في تحليل المسرود الضمني والمباشر بين شخصية الجندي والتقاطه للإرث بعد فقدانه للذة الحياة حيث لم يحصد غير الحسرات من فقدان حبيبته(منى) وخيبة أمل بعد فقدان والده ووضعيته المعيشية المتدنية تلك الأوهام التي كان يضنها مصدر سعادة وهو يجلس إلى المقهى يسمع أحاديث الناس ومشاكلهم سرعان ما يحصل على الإرث الذي يدفنه قرب قبر والده وكأنه فقد أحلامه المتلاشية الهشة.
عتبة مثيرة للمعاني ومفتوحة على المجاز قصة(تهويمات على أضرحة المساء)، يتسع السرد للتأويل المنفتح يكتب المؤلف:”يخترق آذان المغرب لحظة الذهول و الصمت، الحصان عاد من جديد و وقف عند أبي ، انحنى حتى يصل عليه أبي و هرول به إلى المسجد، وقف الحصان عند المسجد، يؤم الشيخ صابر بالناس، ما إن انتهى من قراءة سورة الفاتحة حتى سقط على الأرض ساجداً لله عند المحراب، اندفعت نحوه جموع المصلين، وجدوا قميصه الأبيض وسبحته، و لم يروا جسده .”يمنح التوتر الدائم للمقروء نحو أحلام يتم تفسيرها بواقع اختزالي ينتهي بوفاة الإمام واختفاء جسده ، اضمحلال الجسد له علاقة بحكاية (فاوست) Faustأحد أهم الصور في الفلكلور الألماني التي تعود للقرن السادس عشر، ونسجت المخيلة الإنسانية مختلف الحكايات المرتبطة بالمحيط السحري، السارد ربط اضمحلال المادة بالحلم وهذه المفارقة تمنحنا واجهة تحليل البُعد المبصر لخلفية الاحلام وتأثيرها في عالم الواقع، وفهم رمزيتها الموغلة في الفكر الجماعي المشترك.
يشترك نص (آلة الزمن الواقعية) مع افتكاك الصمت المتقع في المنفى الإنساني المتحرر في أصقاع الديمومة لتّتحول حالة الدهشة بوجود فضائيين إلى تعرية للحقائق: “لمحت طبقا طائرا يهبط من السماء، خفت من هذا المشهد، سقطت من شدة الخوف، وجدت نفسي في مكان رائع أضواؤه خضراء كل شيء يعمل بالصوت.
قال لي رجل ذو جسد أخضر: أنت إنسان من كوكب الأرض.
قلت له بخوف شديد: نعم أنا إنسان، ولكن من سكان تحت الأرض وليس فوقها.
كنت أسمع أن الأموات فقط هم من يسكنون تحت الأرض.
قلت له: نعم نحن الأموات ولكن على قيد الحياة، نجوع ونمرض، ولا أحد يسمع صوت صرخاتنا.”هذا الصوت المتعالي يمنح نكهة تقاسم المشتَّرك الحسِّي في مقاربة عمق الأشياء.
الإشارة لجوهر الأشياء هي التركيز على أهميتها في نص (ذات جوع) مناداة تحتية للأصوات على السطح للجوع صوت لا يمكن إيقافه من خلال تصويره الأنيق داخل النص:”اخترقت أذن (سعيد) كلمات أبنه “أنا جعان يابا” أحس بأنه ميت على قيد الحياة. شبح يسير على الأرض.
انطلق يجوب الشوارع الضيقة والميادين للبحث عن أي شيء يمكن أن يشعر ابنه بالشبع. جلس على الرصيف كالشحاذ يتلقط رزقه من أفواه المارة. لم يعرف ماذا يقول؟! سمع أصوات وضجيج الزبائن الواقفة أمام فرن العيش . منهم من سقط علي الأرض نتيجة طول الوقوف بلا جدوى” ينغلق بالخيال على واقعه الخاص وينفتح على التجاوز والتجاور في نفس الوقت بين الخروج من الباطن كما يسرد (البؤساء) (فيكتور هيغو)Victor Hugo لكن البؤس يختلف في معانيه ويتوخى مسافة التأمل في وضعيات مختلفة.
تميزت المجموعة القصصية (احتضار)بتيمة مكررة هي موت الأب وهذه المقصدية التي لازمت الكاتب لها وقعها على المتلقي وكيفية توافق الرغبة بالإسناد الوظيفي للشكل الذي يمكن الظهور المتوافق بين الاختلاف المعقول والاتفاق المدرك فالأب محور التفاعل الجمالي حيث تتمحور لحظة وجوده بقوة التواجد وتنتهي بفقدانه ولعل للمؤلف وجهة نظر حبلى بالخلفيات المنزوية بمفهوم الذات.
يمارس الكاتب(جمال بربرى) حالة حزن من نوع خاص يتحامل على الألم ويحفر في خصوصية المحكي، ببراعة التأقلم مع المعطيات الأسلوب الفني للكتابة القصصية التي لم تخلو من التشويق والمتعة القرائية واللهفة لتوليف المعنى، وفي تشكيل اللغة خامات مميزة تثير بلوغ النهايات المفتوحة والدلالات المفتوحة للانهاية، هو تحدي جريء وتخمين لما تحت السطور من مخالب توغل في حيثيات معاني أعمق.
* ناقدة من الجزائر