د.سامية يحياوي : تجليات الفقد والإشتياق
تمهيد
تعد المبدعة “فوزية أحمد الفيلالي” شاعرة مغربية معاصرة، تحاول من خلال إلهاماتها الشعرية المبتكرة ملامسة الواقع،
والغوص في متاهات الأنا والآخر، بلغة راقية كثيفة، تشع بالرموز والمعاني، التي انبثقت من ذات مبدعة خبِرت الحياة، فصاغتها في قالب إبداعي مميز وجذاب، خلق حوارية مع قارئ أغرته بولوجها، للاستماع بما التقطته حواسها، وللتصنت على حفيف حرفها، وقوة نبضها، وصدق عاطفتها. فتحدثت من أناها الشعرية التي اختزلت قضايا الذات والوطن والعالم بأغراض شعرية تلونت بين الفخر والغزل والرثاء والشكوى والحنين…
ويعتبر ديوان “هل للفراشات دموع؟” من أجمل ما خطّ قلم الشاعرة “فوزية أحمد الفيلالي” في الصبابة والجوى، والفقد والحنين والاشتياق للحبيب. وقد صدر الديوان عن دار الماهر للنشر والتوزيع” عام 2018، ويمتد على 173 صفحة، يضم قصائد متنوعة كتبت في أوقات متباعدة وأمكنة مختلفة.
وسأحاول من خلال هذه الدراسة رصد أهم تجليات “الفقد والاشتياق للحبيب” في ديوان “هل للفراشات دموع؟”، وقد توزعت على محاور دلالية كبرى هي:
1-الموت /الفقد الأبدي
2-الذكرى ولوعة الاشتياق
3- البحث عن الخلاص: الصبر والوفاء/الوطن /التضرع والدعاء
1-الموت / الفقد الأبدي:
يعد الموت حتمية لا مفر منها فـ”كل نفس ذائقة الموت”[1]، وهو أقسى تجربة قد يعاني منها الإنسان، عندما يفقد أحد أحبابه فقدا أبديا، فيبقى ألم الذكرى غائرا ولا يمحيه تعاقب السنين.
عانت الشاعرة من فقد الحبيب، وعبّرت عن هذا الفقد بالشعر، وما يحمله من إيحائية ونغمية، بلغة حزينة ممزوجة بعاطفة الحب والألم، فكتبت قصائد في الرثاء بكته فيها؛ ويعد الرثاء من الأغراض الشعرية القديمة عند العرب منذ العصر الجاهلي، وهو ذكر مناقب الميت الذي عادة ما يكون عزيزا على النفس، ويعد وفاءً للأيام التي جمعتهما.
استهلت الشاعرة “فوزية أحمد الفيلالي” ديوانها الذي سيطر عليه معجم الموت، بقصيدة تبكي فيها حبيبها الذي سرقته المنية وضمّه القبر، فلم يبق لها سوى الأنين على أعتاب الذكرى، تقول في قصيدة “قالت الشاعرة”:
يكبر الظل بين أناملي حروفا
ويشدو في خافقي وعضه رنينا
ويح القبر كيف سرق العمود
مال الجدار وبكته الموائد[2]
فقدت “فوزة” حبيبها، اذ اختطفه الموت وضمّه القبر، فانهار عمود بيتها، ومالت جدرانه، كناية عن خلاء البيت من أهله. فلم يبق لها من سبيل للتخفف من هول الفقد سوى الكتابة.وتضيف في قصيدة ” أما سعدت برسالتي؟”
أيا حبيبا اشتكت منه أقلامي
ترتعش من عتمة النسيان
ظللت طيّ الأكفان [3]
خلّدت الشاعرة ذكرى حبيبها شعرا، حتى لا يُنسى ويبقى طي الأكفان، بل جعلته حاضرا في كل الجلسات، والموائد بذكرها له أو بما خطه قلمها الوفي لذكراه.
تأزمت حالة “فوزة” النفسية جراء هول المصاب، فلم تعد تدري هل مصابها واقع أم خيال، أومجرد تكهن للعرافات ، تقول في قصيدة “هل أخطأت العرافة؟
وهل أخطأت العرافة
حين رددت على مسمعي
أغنية الوداع..[4].
ثم تجيب عن سؤالها في قصيدة “ما أخطأت العرافة”تقول:
والدمع على فراقه زلل
ما غادر الخد
كالسيول مدرار يسيل..[5].
تبكي الشاعرة هذا الحبيب الغائب في العالم الآخر، والحاضر في روحها وقلبها. فقد طال زمن فقده، وأصبح صدى ذكراه يرن في خافقها، ويحادثها هامسا في كل حين. فلم تنسه ولو لحظة لأن ذكراه تسكنها، في كل المواسم والفصول، لاسيما فصل الشتاء الذي يزيد من ألم الشاعرة باعتباره أبرد الفصول جوا، وأكثرها حرارة عندما تلتقي بالمحبوب، لكن شتاءها هذا العام على غير عادته، وحيدا باردا وطويلة لياليه لا تكاد تنقضي. والشاعرة تعد لحظات هذا الزمن المتثاقل الذي يأبى المرور، تقول في قصيدة حين يطول الشتاء:
يلبسني الردى
وبرد القطب سئمت لوعته
أفرغت الموائد حطبا
حتى تستدفئ روحي عبثا
فالجسد تجمدت عروقه جفاء
والشتاء على مقربة من صيفي
حصد الزراع شطأه[6]
استحوذ الفقد على ذات الشاعرة، ولبسها بعد وفاة مؤنسها، فأحاط بها الحزن وسكنها، فأصبحت تقيم على تخوم الموت، وتحس ببرودة تشبه برودة القطب المتجمد. حيث سيطرت على حياتها مع برودة الشتاء الوحدة، فحتى الموقد الذي اعتادت أن تستدفئ به مع حبيبها، أُفرغ من حطبه، وأصبح قفِرا، وجسدها تجمدت عروقه، ولم تعد تحيا غير فصلين في السنة، هما فصل الشتاء ببرودته وقساوته، وفصل الصيف بحرارته وجدبه وقحطه.
وجدت الشاعرة ملاذها في هدأة الليل وسكونه، فعادة ما ارتبط الليل عند المكلومين والمتأزمين نفسيا بالأرق والطول والحزن، بل واختاروه وقتهم المفضل للبوح والذكرى، ففي قصيدة “نديم الليل“أصبح الدجى نديمها، ووقتها المفضل، تجلس في عتمة حلكته تتأمل النجوم، لترى حبيبها مَلَكًا يجوب السماء في هيئة نسمات وأغنيات تواسيها وتؤازرها. تقول في قصيدة “اعترافات في حضرة الدجى“:
يا ليل أنثر دجى الأيام ما ملكت
واستقرض الصبح ساعات بلا خجل
يا ليل هيا أتحفني كي أمازج الملل
شوقي يمزج الأنفاس بالقبل
قناديل عشقي نازفة وجع السجن
عروسة في حضنك أكتحل المقل[7]
ترى “فوزة” نفسها عروسا للدجى تماما مثل شهرزاد، لكنها تنتظر حبيبا غائبا علّه يزورها، فهي تواسي نفسها وتمنيها باللقاء. خاصة وأن جرحها يزداد عمقا وألما وقت الليل حتى الفجر. فقد أصبح “الشتاء” ببرودته، و”الليل” بظلامه وسكونه من أفضل أوقات الشاعرة لتمارس طقوس حدادها على روح حبيبها.
وتبوح الشاعرة في قصيدة “لم الحدود؟”بصعوبة وضعها وتأزمه، فقد أصبحت متوحدة مع ذكراه التي لا تفارقها، حتى باتت تفزع وتود الهروب من الذكرى القاتلة، لكنها لا تستطيع، تقول:
لبست ثوب الأسحار
كلمح البصر
أرفرف بجناحي الأمل
دعني أطير إليك
أعليّ الموت وحدي؟
…………………..
أشباح الابتعاد تفزعني
تمزقني…
حاولت الهروب من ذاكرتي…
مني وسكوتي
من ظلي المائل نحو الغروب
من سبحتي التي أدمنتها
لأنساك
حسرة لم أجد خلاصا
عفوك لا تغادرني
فأنت الربيع وأنت الحياة[8].
سيطر معجم الموت على الأسطر الشعرية، حاملا حقولا دلالية تحيل على الفراق والحزن ومن ذلك “الموت، وحدي، أشباح، تفزعني، تمزقني، الهروب، الظل، السكوت، الغروب، أنساك، حسرة، لا تغادر…”، لتختم المقطوعة بقولها “فأنت الربيع وأنت الحياة”بمعنى أن سعادة الشاعرة لن تكتمل إلا في حضرة المحبوب، فهو حياتها وشبابها وفرحها ودلالها حيا كان أو ميتا.
تقول في قصيدة “عندما يبكي الفراش..على كف النبض..”
تسبقني دمعاتي
ألغيها ولا أبالي
المكان شاغر المعاني
صوتا يئن هنا هاربا
وآخر عاري الإحساس
مات في غييه نبض الأمل
وغرق الربيع في وحل خريف
صيّر الاصفرار لون الظلام[9]
باتت دموع “فوزة” تنساب رقراقة، حتى وإن حاولت كتمها، تفضحها وتنزف دما، فتسارع لمسحها كلما رأت المكان وقد أصبح طللا خال من الحبيب بعد أن كان فضاءهما المفضل. تقول “مات الأمل وغرق الربيع في وحل الخريف” وكل الألفاظ الموظفة ” دمع، المكان الشاغر، هاربا، عاري، مات الأمل، غرق، وحل، الخريف، الاصفرار، الظلام” تنتمي إلى حقل الموت والتلاشي. فكأن روحها تتساقط كأوراق الخريف لفقدانه. وتضيف:
مثقلة بحرارة الغرام
يرثي ليلي الأنين
أغفو نحو زرقة السماء
يسبقني خشوع صلواتي
بلحن أريج الفراشات
تلك الفراشات يسيل حبرها على
أوراقي البيضاء دمعا
أستسقيه إلهاما، شعرا
وخواطر ذاتي…[10]
لم تستطع الفراشة العاشقة نسيان حبيبها الغالي، فاستسلمت للسبات في ظلمات الليالي تبكي ذكرى عزيز عليها، وتناجي الله صبرا، وتكتب ألمها على الورق شعرا، علّها تتخلص من الألم وتشفى منه ولو قليلا.
أدركت “فوزية” أنها لن تتمكن من نسيان فقيدها، وإن حاولت لأنه يسكن القلب والجفن، وكان الحبيب قد أوصاها بعدم البكاء في قصيدة “افسحي لي الطريق” قائلا لها:
قولي لجفنيك مهلا
على رموش سقيتها بعيوني[11]
فردت عليه بقصيدة بعد وفاته وسمتها بـ “أيها الراقد تحت جفوني” :
طرزت لك وسائد الدفء
حتى لا تشعر ببرودة الوحدة
ووحشة العتمة
خيالك وجداني
كلما تذكرتك إلا وخانني صبري[12]
كان فقيد الشاعرة مَلِكا لاتليق به إلا القصور، وبعد أن سكن القبور، بَنَتْ له في عرش قلبها مقاما يليق بروحه، وطرّزت له وسادة تقيه برودة الرمس والوحدة، وعاهدته أن تلازمه في كل لحظة، لأنه يعيش في وجدانها وجفونها، رغم أن جسده قد احتضنه الثرى تقول:
أيها الراقد تحت الثرى !
لازلت أرتب فنجان قهوتك المعتادة
دخان سيجارتك السوداء
أشمه كلما نظرت إلى فراشك المكلوم
البيت لم يعد بيتا
وصينية الشاي فقدت جمالها
شحب وجهها أسى
حتى الكؤوس البلورية لبست الحداد
غادر كل شيء…
هاجر مع الطي
وكأن الزمان أعلن النهاية
كل شيء جميل[13]
خلّدت الشاعرة ذكرى حبيبها، فهو حاضر في تفاصيل يومها، مع فنجان قهوتها، وشراشف سريرها، في صينية الشاي والكؤوس البلورية وقنينة العطر…. كلّ أشيائها أعلنت الحداد، وأقامت طقوس العزاء فباتت بلا طعم وبلا رائحة، وفاء لذكرى المفقود الغالي، الذي بموته انتهى كلّ شيء جميل في حياتها.
وتضيف في قصيدة “ أسرق اللحظات “
أعض بأنياب الدموع على
فراشي ووسادتي بللتها
تنهدات عاتية
حيث تدفق فنجان قهوتي
على مناديل ممزقة
أبحث عن حب في أقداح مكسورة
في بقايا قبور هزتها رمال الاشتياق[14]
تبكي الشاعرة كل ليلة حبيبها، بكاء حارقا، بدموع صورتها وكأنها وحش له أنياب يعض بها بشراسة على سبيل الاستعارة المكنية. كما غاصت في الماضي وبقايا الأشياء والقبورالتي تذكرها به وتؤكد لها أنه مات فعلا.
مات الحبيب فجأة وترك محبوبته ضائعة حزينة غير مصدقة ومستوعبة لهذا الفقد، تذرف الدمع وتنسج من خيوط الذكرى لقاءات وخلوة تواسي بها وحدتها وجلل مصابها، تقول في قصيدة “أنثى الضياع”
أنا تلك الأنثى
تلك الغائبة بين الحروف
سجلتها في قاموس ذكراك
……….
أنا أنثى الحكاية
قصة بلا نهاية…
بلا وصل اعتراف ولا حتى تشهد
لا لغة احتمالات، لا قواميس انذارات
تدفىء فنجاني البارد
تلاحق أمل الموج
………..
أتذوق طعم الحيرة بلا سكر
والنهار غابت عنه شمس الشروق
كما غابة يئست من الغيث
قدّت كل أغصانها من قُبُل
ولدت ثمارها قبل النضج
وماتت بلا عتاد
كأنثى ضاعت بين دموع الحسرة
وجفاء الرغبة
……..
تركتني على وهجي هائمة
بسيوف الحسرة
وموت دون ظرف جواب[15]
فقدت الشاعرة لذة الحياة، وحاسة الذوق، لم تعد تحب الحياة، وقتها الوحيد الذي ترتاح فيه كان وقت الغروب، لأنه يشبهها، فهي في مرحلة الأفول والذبول بعد أن كانت شمسا تضيء بوهجها وشعاعها، كما رأت نفسها تشبه الغابة التي تعاني القحط بعد أن هجرها المطر ونساها فذبلت أغصان أشجارها، وجفت لتموت وحيدة. هذه المشاهد والتشابيه اختصرت حالها بعد فقد حبيبها، وجع، وألم وحسرة ووحدة ورغبة متوهجة كسرتها شوكة الموت القاسية بلا رحمة دون استئذان.
كان ألم الشاعرة كبيرا جدّا لفقدها أعز إنسان على قلبها، ولم تجد بدا للعيش بعده، فلا أحد يهمها أو يستحق أن تحيا من أجله، لهذا نجدها وكأنها تطرح سؤالا في قرارة نفسها “لمن أعيش” ثم تجيب “أحيا لمن رحلوا” وهو عنوان قصيدة لها تقول فيها:
تركوا مغاور العشق
حرروا طريق الأمل
عن حبي
أنفذ وصية المدى
أغوص في أغوار الحروف
ابتسم في وجه الحزن
أحلم عروسة الروابي
مزجت نبضي بنبضهم
شكلته وردة واحدة
غرستها نبتة في كلّ مشتل
دفتر حب[16]
رأت “فوزية” أن الحياة بلا قيمة بعد أن فقدت محبوبها، فبابتسامة متثاقلة ساخرة، تؤكد أن سبب حياتها مختصر من أجل من رحلوا. لهذا لا تزال صامدة متحدية للحزن والألم تمارس طقوس عشقها وقت السحر كأنها عروس تنتظر حبيبها في الجنان.
لا تزال “فوزية” بلغتها الرومانسية الحزينة تنتقي أصعب الأوقات وأكثرها حزنا على العشاق، فمن “الغروب والليل والسحر” هاهي تختار المساء وتضفي عليه هالات من الأنسنة لتتيه فيه وهو يراقبها حزينا لحالها:
المساء يراقبني من بعيد
أتمايل كالأرجوحة المهترئة
شمالا وجنوبا كبوصلة سفينة ضائعة
تلاطمني أمواج الخوف
الليل أسدل أشرعته الفحمية
ولم يبق من الأمل إلا خيط العنكبوت
نسجته أحلامي الوردية تفاؤلا
هو الغرق في بحر الدجى
ليس بالمستحيل
سراب الأماني تلعثم باكيا
من بعيد يتراءى لي لون عينيه
قوامه يتراقص على موج الهوى[17]
بات حال الشاعرة يشبه حال الأرجوحة المهترئة، التي يعصف بها الريح شمالا وجنوبا دون مقاومة منها. وحالها يشبه أيضا حال السفينة الضائعة التي عصفت بها الريح في عرض بحر هائج، فتقاذفتها الأمواج يمينا وشمالا وهي ضعيفة ليدركها الليل بسواده لتغرق في الدجى، وليس لها من أمل في النجاة سوى بصيص أمل يلوح في الأفق قوته تشبه وهن خيوط العنكبوت، وتمثل هذا الأمل عند “فوزة” بخيال صورة حبيبها تتراقص مع الموج، فتتبعه لينقدها بالغوص فيه مرة أخرى.
وتضيف:
أنتظره قبل غروب الأصيل
قبل هجرة الحمام
بحضن دافىء
وسجاد أمل
ليت النهار لا ينقضي نحبه
جريا
ولا تفزع نسائمه…
قبل أن أعانق خيال حبيب
أتى على موج اشتياقي
أغنية سأعانقه…
ثم يغفو وجعي…[18]
تبوح الشاعرة بأن فقيدها يعيش معها كل الأوقات ويقاسمها تفاصيل نهارها، ولها خلوة معه قبل الأصيل، لتسترق لحظات خلوة وعناق مع خيال حبيب تشتاقه، حتى تتخفف من الألم ويخبو ألم الاشتياق ولو قليلا تقول “ثم يغفو وجعي” والغفوة عادة ماتكون سريعة وعلى عجل ولا تدوم طويلا.
وتقول في قصيدة “سحر المغربية” :
أي خافقي كم يلزمني في وجعي
من مناشف لرجفة شفاهي ودمعي
وهطول مزاريب أهدابي
فدادين من رمل وورق
ليتني ما صاحبت المها
ولا ركبت الموج الولع
دون مهد ولا زورق
لله درك أيها الجاني…[19]
تتوجع الشاعرة ويعصر قلبها ألما بسبب موت رفيقها، فلم تعد مناشف الكون كافية لكفكفة دموعها الغزيرة، حتى تمنت لو أنها لم تلتق بهذا الجاني، ولم تعش معه شغف العشق حتى لا تتعذب بفراقه. ثم تتراجع لتتمنى في قصيدة “رياح الشرق” لو أن الزمن تعثر وتأخر عن قبض روح حبيبها، فليته لم يمت موتا مباغتا، وبقي حيا لتعيش معه لحظات الحب والفرحة، أو أنه أمهلها وقتا لتسوعب أنه سيرحل :
ليت الليل ما أسدل مواطنه على راحتيّ
المبلولتين بكؤوس دموع
الفراق المباغت قسرا
ليت الزمان تأخر برهة
الرياح بعثرت كل حاجاتي
والمصير تقرر على صفحة القدر
صبحا على بقايا تراب
زرعت شيئا منتمر
ورشات ماء زلل
وسلمت للطير زهور ربيعي
رطب فؤادي الضعيف
وقبلة للقاء[20]
وتختم ديوانها بمقطع يفيض دلالة من قصيدة “واختفى السراب”
سيختفي المساء
وتشرق في عينيّ
في وجداني أمنيات
على أفق كوكب النقاء
يجف دمع اليأس
في حدائق الرغبة يهمس الإنتشاء[21]
وتضيف:
من زمن ولّى
داسته عجلة اليأس
في صحراء التيه
دون أمل في اللقاء[22]
رسمت “الشاعرة” لوحة شعرية بكائية تنزف حزنا وألما، لأن فرحتها لن تكتمل، ولقاءها مع محبوبها لن يتم، ولأن أحلامها لن تتحقق، ولن تدوم طويلا، لأنها ستنتهي إلى يأس يمحوها، مما أشعرها بالانكسار والتشظي، وفقدان الرغبة في مواصلة الحياة وحيدة، لتقنع نفسها مرة أخرى أنها ستواصل من أجل ذكرى من رحلوا.
2-الذكرى ولوعة الاشتياق:
تيقنت الشاعرة أن مصابها جلل، وأن فقدانها لحبيبها واقع لا مفر منه، فاستسلمت وتعايشت مع الوضع، ولكنها لم تنسه وظل ساكنا في قلبها ووجدانها. وقررت أن تضبط ساعتها وتفاصيل يومها على مقاسه، ليكون الغائب عن الأمكنة والحاضر في روحها، كما كانت الكتابة رفيقها وملاذها للتخفف من حدة الألم والصبر على قساوة الوحدة وهول الفراق تقول في قصيدة ” مني إليك”
سأراقص خيالك
على مقاس أيامي
وأعيش تفاصيل وقتي معك
لا أترك للخيوط منفذا
ولا للساعات دقات قلق
سأوقف العقربين حتى
باكرا لا تغرب شمس شواطئي
لا زلت لم أكمل قصيدتي
ولا حياكة وسادتي
أيّها الهارب مني
منّي إليك
وإليك مني…[23]
رغم الألم والحزن ظلت الشاعرة صابرة متجلدة، وفية لذكرى حبيبها، فها هي تسأل البحر الذي كان شاهدا على حبها، وكان رفيق خلوتها بعد وفاته تقول في قصيدة أيا بحر سألتك:
عن رسائلي… عن أقلامي
عن حبي وغرامي
عن سر كتبته بدمي
لا تقل دفنته تحت صدفيات[24]
تناجي الشاعرة البحر وتسأله عن وديعتها، من رسائل ولحظات حب وجوى وأسرار باحت بها لهذا الصديق الوفي، فهل غدر بها هو الآخر وتنكر لها، ودفن ذكرياتها تحت الصدفيات؟ !
تثير الذكريات في نفس الشاعرة حزنا عميقا، حيث تفقدت صندوق ذكرياتها الذي أودعته للبحر، ثم عاهدت فقيدها أن تبقى وفية له، وأن يعيش فيها، لكن رغم هذا فهي تشتاق له كثيرا.حيث بثت في قصيدة “دخان المدائن” شوقا وحنينا للغائب المفقود:
حتى لا يتوقف السيل
يتدفق دمي روابي
يسقي جنان لوعتي
المتحجرة على حافة ذكراك
حورية أنا في سن الثلاثين
بلباس عفة العشق
أدثر ثوب جسدك
بين ضفيرتي
حتى لا تبطش بها أيادي من دخان
ورشق حجارة دروب
من قصب وغضب…[25]
تصف الشاعرة في هذه الأسطر الشعرية،عمق وجعها، حيث فقدت الرغبة في الحياة، وتغير حالها بعد أن اختطف الموت حبيبها وهي في زهرة شبابها، بعد أن كانت تعيش طقوس الغرام وجموح العشق وعفته، اليوم أصبح ماضيها ذكرى سرقت منها أيامها، فلم يعد لحياتها طعم، حتى سريان الدم في عروقها باتت تعتبره مجرد شحنات تعطيها الطاقة من أجل الاستمرار في البكاء على ذكرى فقيدها، فلم يعد لها من حاضر ولا مستقبل من غير الرثاء.
استبد الشوق والصبابة بالشاعرة، فرسمت لنا مشهدا حزينا يصف لنا خيبتها، تقول في قصيدة معبد الهوى:
على شرفات معبد الهوى
نصبت خيام الصبابة
فناجين قهوتي الصباحية
أرشفها سادة مرة
كحنظل الصبر
كما طفلة تاهت عنها حلمة أمها
بين الصدر والحبل السري
وهل حان الفطام[26]
اشتاقت “فوزة” للحبيب الغائب، وغاصت تستحضر ذكراه، وهي ترتشف فنجان قهوتها الصباحية، فوجدتها سادة مرة كحنظل الصبر، وكأنها أعلنت الحداد متآزرة معها. ثم شبهت الشاعرة موت حبيبها السريع والمفاجىء وهي في أمس الحاجة إليه، بحال رضيعة فطمت عن ثدي أمها على عجل وهي لا تدري حتى ان كانت قد بلغت الفطام !
وتقول في علمتني حبيبي:
أيها الغائب عن صبابتي
أترصد الغروب
حتى أرسل لك قبلاتي
المعطرة بعسل الاشتياق
بعبق الترياق[27]
تنادي “فوزة” غائبها القريب نداء البعيد عن صبابتها، وتخبره أنها تترصد بشغف وقت الغروب لتختلي بقرص الشمس الغائب، وترسل معه قبلاتها المعطرة بعسل الاشتياق فهي الدواء لروحيهما.
وتصف “فوزة” حالها في قصيدة “شهقة الرغبة”، بعد أن فاق الشوق قدرتها على التحمل حتى وصلت مرحلة الذوبان والتلاشي :
تشدني إليه الرغبة
أتعرق خجلا
يموت في أحشائي
كأس زجاج أمل
يتشقق ثوب عرسي
يقطر دما على أيكة الفراغ…[28]
اشتد الشوق والصبابة بفوزية، ويعد أن تعبت من الانتظار اليائس، فقدت العروس الأمل بمجيء عريسها، وتلاشت في الفراغ.
لتقول في قصيدة “سارق النبض”، أنها تقارب من النهاية بعد كل يوم يمضي وهي بعيدة عن محبوبها:
كل يوم يمر من دونك
نبضي يتوقف[29]
لاتزال “فوزة” وفية لعهد حبيبها، تمني نفسها بالوصال من جديد، وكلها شوق للقاء، تقول في قصيدة “فصيلة دمي حاء وباء“:
تفاصيل عشقي نبيذ ذكريات
تبددت عشواء في كهف القحط
دمي يجري زوارق نوارس
على شواطئ شراييني أضلع ماء
…..
صرخت مستغيثة بخافقي
دمي بالود شقائق النعمان
وسط السلال ينضح
يتهجى طريق العروق
ربطت أشرعتي بمشيمة الروح
أنتظر على صفحة الماء
علني أشم رائحة اللقاء[30]
لم يبق للشاعرة من حصاد عشقها سوى الذكريات التي شبهتها بالنبيذ لما تفعله بصاحبها وتوصله حد الثمالى، وقد غابت هذه الذكريات وتلاشت في كهف قحط، لأنها عقمت عن التناسل بموت الرفيق. وبقي الحزن يجري في عروقها ويسقيها وجعا. قد استحضرت الشاعرة أسطورة فينوس[31]، التي فقدت حبيبها أدونيس إله الخصب والنماء في قولها ” صرخت، مستغيثة، شقائق النعمان، ” حيث شبهت الشاعرة نفسها بفينوس العاشقة الثكلى.
وتستحضر الشاعرة أسطورة نرسيس[32] في قولها “ أنتظر على صفحة الماءعلني أشم رائحة اللقاء”حيث أصبح مرتعها صفحة الماء مثل نرسيس الذي انتظر محبوبته على صفحة الماء دون أمل في اللقاء.
و في قصيدة “ملكك أنا” تطمئن “فوزة” حبيبها أنها له، فلْينم مرتاحا قرير العين في القبر:
نم قرير العين في ثوب الرخاء
لا تدع نظري كنجمة خرساء[33]
رغم تجلد الشاعرة، وحفاظها على ذكرى حبيبها حية في قلبها، فهي تتعايش وكأنه معها لم يغب عنها. إلا أنها تعبت من وحدتها، وأتعبها عظيم مصابها، فتمنت الموت والالتحاق بحبيب قلبها الذي باتت تناجيه كل ليلة حتى وقت السحر قائلة له: “دعني أطير إليك… أعليّ الموت وحدي؟”.فقد أصيبت بالحزن وتلاشت في وحل الفقدان.
ثالثا:البحث عن الخلاص :
تنوعت مشاعر الشاعرة وتعددت في ديوان “هل للفراشات دموع.؟”، بين حزن وألم وشكوى وأنين، ثم الصبر والأمل والتفاؤل بالتضرع إلى الله والايمان بقضائه وقدره. تقول في قصيدة غروب في زمن الانتظار:
أمرّغ القلب على تراب الذكرى
أحمل شجني في جواي
في تلابيب رأسي
… لا أعرف ماذا يعني
أن تموت الأشعة في عمق المحيط؟
في زمن الانتظار
غرب ظلي قبل الموعد
لا يلوي على عتبة النسيان
الزوارق تمزقت في أحشاء البحر
أسدلت خمار الجذب
في مسالك العاشقين
متى يرتمي في بوحي صدر العشق
تتولد نطف لواعجي وأحيا من جديد[34]
لا تزال الشاعرة تعيش تحت هول الصدمة، وحيدة تمرّغ القلب على تراب الذكرى، وتحمل الحزن في قلبها لا تقاسمه أحدا آخر لهول ما تعيشه. فهي في مرحلة الصدمة والذهول، لهذا نجدها تقول في المقطع الشعري “لا أعرف…؟”، فقد وئدت فرحتها في بدايتها، كما تموت أشعة الشمس في قلب المحيط، وكما يبتلع البحر الزوارق على غفلة، لتعلن الحداد وتيأس من الانطلاق من جديد.
وتضيف في قصيدة “طال الغياب“
القلب فص ملح ذاب
والشعر أبيض من العتاب
مهلا لازال هناك
عصفور لم يمت…
ينتظرك على حافة الرصيف
في زاوية أحلامك الشحيحة
سأموت دون موعد
لا أحب الرحيل
بعت كفني في سوق اليأس
تجملي بعبق الياسمين
ولا تكتبي لي رسائل عزاء[35]
شعرت “فوزة” أنها ماتت موتا معنويا، فشاخت في عمر الشباب بسبب حزنها العميق، فباتت تعلم أنها تقترب من النهاية كل يوم،:فالإنسان يموت كل لحظة، وكل يوم موتا جزئيا لا يكاد يشعر به”[36]. فرغم أنها لا تحب الرحيل، لأن في أعماقها بذرة أمل تحلم بتحقق المستحيل. وتقول في قصيدة ” في وحدتي حائرة”
الهوس زاغ عن طريق الابتسامة
بدد كل أحلام المساء
ابتعد الطائر الأخير عن أوردتي
رحل مع السراب
إلى ما بعد الرؤيا
أنتظر هبوب الرياح
أليست لواقح؟
من يخبرها أن قرابي فارغة
والبئر سقاه يوسف زائرا
خونة هم متهموا الذئب
تركوه كما وحدتي
من لي بسيارة عفو
وبدلو يسعفني من دثار قبو
يحرر ريشتي
يسيرني إلى عزيز يحتوي
صمتي يملأني ضجيج أنس
كي تزحف مواكب الألوان
تملأ صدري بورود الحلم[37]
أصبحت الشاعرة تعيش انفعالا مأساويا وهوسا بسبب الفقد القاسي، فقد فقدت إبتسامتها، وتبخرت أحلامها الوردية في سوق اليأس، ولا تزال تطمح في رحمة الله، لعل الرياح تهب بالخير فتلقح الرماد ليتوهج من جديد. فتملأ القِراب، كما استحضرت الرمز الديني، فتناصت مع “قصة سيدنا يوسف التي تراها تشبهها وذلك” من خلال المفردات “البئر، الجب، الليل، الذئب، السيارة، العزيز…”فربما تمر السيارة على بئر يوسف/ الشاعرة- لتحررها فتطير إلى عزيز مصر. كلها أحلام تخيلتها فتلونت مخيلتها بالورود والألوان لوهلة.
ولا تزال الشاعرة تحلم بحدوث معجزة تغير حالها من الحزن واليأس، إلى الفرح والأمل. تقول في قصيدة متى يحن المطر؟
يرتوي عشقي غيثا
تنبت في وجداني سنبلة
بذرة.. شتلة … حب
أزرعها برمش عينيك
أصحو على رفرفتها كالفراشة
بأجنحة مستعارة
على برج راحتك أبني جنّتي…
بحقول خضراء
وزقزقة طيور ثرثارة
من فرط شكوى سكوتي…
تموت وحدتي معك
تذوب كالثلج
على شحنة بركانية
من فيض وجودك لظى
يغمرنيى كلفة صيف مترنم[38]
تعيش الشاعرة عشقا مستحيلا، عبر خيوط الذكريات، هذا العشق الجاف اليائس الذي يشبه زورقا متحطما في عاصفة ليلية، أو كأرجوحة مهترئة، أحيانا يعود إلى الحياة ويسقى عشقا، ليرتوي فيزهر بالبراعم والحب، لكن ليس في الواقع بل في الحلم تقول:” أزرعها برمش عينيك أصحو على رفرفتها كالفراشة” بأجنحة مستعارة” لتتجدد أجنحة الفراشة الثكلى بحب مستعار من الأحلام. فتتماهى مع المحبوب وتذوب فيه من حرارة اللقاء، فتذوب كرة الثلج مع لهيب الشوق، لتتجدد روحها من جديد.
تستذكر الشاعرة مناجاة الحبيب لها ووصاياه بالاهتمام بنفسها في حال غيابه، تقول في قصيدة “أفاطم… لا تصدي” أفاطم تمهلي
في سيرك ترنمي
حبيبتي لا تسأمي
جميلة عيناك
والهدب المتناغم
قلت.. بللينا عشقا
ولا تهجري
بسمة طيفك صمت كفيف
يسري في مجاري دمي[39]
تتذكر الشاعرة غنج حبيبها بها، على طريقة أمرئ القيس وهو يتغزل بفاطمة. فقد كان يعشقها حد الجنون “أفاطم تمهلي في سيرك ترنمي…” يحب دلالها وتمايلها، عيونها وأهذابها، فقد كان لا يقوى على فراقها.
وتضيف على لسانه في قصيدة “افسحي لي الطريق“
أنا اليوم من بعدك أعاني
أريد أن أعيش
بين أحضانك
دون تفكير
وكأنني مخذر
افسحي طريق قلبك
فأنا طائر دون جناحين
إلى برجك أطير[40]
تقول في قصيدة حين دمعت عيناك:
حبيبتي كفكفي دموعك
منديلي ممزق وقلبي يسيل
يتدفق أحجار من فحم كالأسير
لا أحب أن أراها…
دموعك عندي ذهب
بعيار ثقيل
قولي لجفنيك مهلا
على رموش سقيتها بروحي
يوم كان الهلال ينشد أغنية الرحيل
لا أحب أن أراك حزينة
فالشموع تموت. تكفن. تحرق
تحت فرحة الآخرين
يبقى الفتيل إرثا
تعزف على ذكراه
أحلى المواويل
قمر أنت جميلتي
لا تعذبينني
سأظل أراقب أهدابك صبحا وليلا[41]
في هذه القصيدة الدرامية، يترك الحبيب وصية لمحبوبته، وكأنه أحس بقرب أجله، ودنو موعد الرحيل الأبدي. و”بالموت العابث الذي يظهر في اللحظة غير المناسبة لكي يضع النهاية المحزنة”.
يوصي الحبيب فاطمته بعدم البكاء والرفق بحالها. فهو لايحب أن يرى الدموع في عينيها، فدموعها غالية كالأحجار الكريمة والذهب الصافي. يوصيها “قولي لجفنيك مهلا على رموش سقيتها بروحي”فهو لا يحتمل حزنها، ويصبرها قائلا أن كل الأشياء الجميلة تنتهي إلى الفناء في آخر المطاف، ولا تبقى سوى الذكريات الرائعة تخلدها. لذا يوصيها في حال غيابي ورحيلي لا تبكيني “قمر أنت جميلتي لا تعذبينني” وهو أيضا لن ينساها وسيراقبها في رمسه ليلا ونهارا.
بحثت الشاعرة عن بديل ينسيها فجيعتها، فلجأت لذاتها فوجدتها ضعيفة سرعان ما تغوص في وحل الذكريات فيقتلها الألم. فقررت أن تبحث عن وطن يحتويها، تلجأ إليه لتتخفف من اغترابها الروحي الذي أفقدها لذة تذوق الأيام حيث اغتربت عن ذاتها وأهلها وحتى وطنها.تقول في “قصيدة أبحث عن أرض“:
تائهة أبحث لي عن وطن يضمني
بين ثنايا العمر
بين إسرار الكون[42]
وتصيف في قصيدة “أبحث عن هواء .”
أبحث عن فضاء
وأنا العارية بلا رداء
يسعفني، يضمني، يدثرني
من عشوائية الرصاص
أين الوطن…؟
حيث لاوطن… فداء
وأنا تائهة من خم عش غراب
بلا جنسية ولا وثائق انتماء.[43]
تبحث الشاعرة عن فضاء يضمها، لأنها تعيش تيها وضياعا وحالة نفسية متأزمة، لكن حال الوطن لم يكن ببعيد عنها، فهو أيضا متأزم سياسيا يشبهها كثيرا، و “التماهي المطلق بين الذات ورمزية الأرض، قد يذهب إلى حد بعيد، عندما تصبح الذات حالة محل الأرض، ونائبة عنها، عندئد تستعير منها كل الصفات المميزة للأرض باعتبارها مكان”[44]، وكأن الشاعرة كانت تعبر عن ذاتها من خلال حال الوطن المفجوع بالموت والفقدان.
لم تجد الشاعرة من خلاص من هذا السجن النفسي الذي كبلها وأطفأ وهج سعادتها، إلا بالايمان بقضاء الله وقدره فتوجهت إليه بالتضرع والدعاء علّها تشفى من حزنها تقول في قصيدة “فانا عاشقة عيون”
وقلبي بحبك مسكون
سلام عليك حيثما تكون
أكاد أغرق في بحر صبابتك
غدير طيفك
وليس لي زورق
حتى يستعصي على العوم
لولا كلمة سبقت
لا اله إلا أنت ربي
من الظالمين
رحماك بي أصبحت
في بطن العشق كما يوسف نجني
من قميص بدم العشق مبلول
ورمح في قلبي مسلول
وذنبي أنني عاشقة عيون[45]
تناجي الشاعرة الله بدعاء “يونس” في بطن الحوت “سبحانك ربي إني كنت من الظالمين” حيث اقتبسته في القصيدة وتناصت معه تناصا صريحا، لأن حالها يشبهه؛ فهو ابتلعه الحوت، وهي ابتلعها العشق !
كما استحضرت قصة سيدنا يوسف وتناصت معها، لأنها تشبهها فكما عمي سيدنا يعقوب بفقد ابنه”يوسف” هي أيضا عماها العشق وتحتاج لقميص يوسف ليعيد عليها الرؤيا. وتقر الشاعرة بضياعها بسبب الحزن وعدم تحملها لمرارة الفقد، وقساوة الوحدة في قصيدة “حرف بين السحاب”
ضاعت بوصلة سكوني
بين غمام غزى الفضاء
حزمت رباط سلامتي
وأنا بجانب نافذتي
المطلة على الغياب
قلت مع السلامة
عذرا لم أنتبه، فتحت أروقة
كتاب نسيته بمحفظتي
تعمدا
قرب الفضاء أستجدي قوانين العرف
هي السماء لي…
قرب الفضاء استجدي دعواتي
لخالق الأكوان
تتبدد كل أحزان التراب
آتيه عارية الوجع
بلا خمار
بلا أنهار تشظي
بلا أسلاك شوك
بلا جحود طوق
هي السماء شرفة
والباقي ثلث ماء …[46]
أمام هذا الضياع وهذا التشتت لم تجد “فوزة” من ملجأ سوى الله تعالى، فهي تناجيه عارية من أي قيد ليربط على قلبها، وينزل سكينته على روحها فتبرأ من هذا الألم القاتل. ليكون الدعاء والتضرع هو الخلاص.
في الأخير، شكل الموت في ديوان “هل للفراشات دموع؟” المحور والثيمة الكبرى، التي نسجت حولها النصوص، والتي تنوعت دلالاتها بين حالة اليأس والاضطراب والضياع الذي أحست به الشاعرة لفقدها حبيبها فماتت موتا معنويا.
تميزت هذه القصائد الرثائية بنضج فني، يعود إلى نضج التجربة الشعرية والشعورية للشاعرة، حيث أبدعت في تصوير الصراع بين الأنا والذكرى والكون بعد فقد الحبيب وفنائها الروحي بعده ، بمادة رثائية مثيرة، ممزوجة بالغزل، حيث صورت نفسها مع الحبيب، ثم وصفت وحدتها بدونه لتتماهى فيه باحثة عن الحل الذي تجاوز الذات/ الأنا والوطن، ليستقر في اللجوء إلى تضرع الذات الإلهية أين السكينة والخلاص.
الهوامش:
1–سورة الأنبياء: الآية 35
2-فوزية أحمد الفيلالي: هل للفراشات دموع، دار الماهر،ط1، 2018،الجزائر، ص13
3-المصدرالسابق: ص37
4–المصدر نفسه: ص 49
5-المصدر نفسه: ص53
6-المصدر نفسه: ص14
7-المصدر نفسه:16
8-المصدر نفسه:24
9-المصدر نفسه:66
10-المصدر نفسه:67
11-المصدر نفسه:140
12-المصدر نفسه:85
13-المصدر نفسه:85
14-المصدر نفسه:109
15-المصدر نفسه:94-96
16-المصدر نفسه:108-107
17-المصدر نفسه:115
18-المصدر نفسه:116
19-المصدر نفسه:29
20-المصدر نفسه:163-164
21-المصدر نفسه:166
22-المصدر نفسه:110
23-المصدر نفسه:17
24-المصدر نفسه:99
25-المصدر نفسه:25-26
26-المصدر نفسه:56-57
27-المصدر نفسه:123
28-المصدر نفسه:152
29-المصدر نفسه:158
30-المصدر نفسه:18
31- فينوس : هي إله الحب والجمال عند الإغريق، لها علاقة بالحدائق والجمال. أحبت أودونيس الذي وصف بجماله الخارق وقد تخاصمت أفروديت مع آلهة الموتى “بيرسفون لحيازته والحصول على حبه وكان الخصام دمويا مما دعا لعرض الخصام على زيوس، فحكم على أدونيس بأن يقضي ثلث وقته لنفسه والثلث لأفروديت والثلث الآخر لبيرسفون لذا يموت أدونيس كل عام ويعود للحياة
أنظر : آرثر كورثل، قاموس أساطير العالم ، تر : سهى الطريحي، دار نينوى، دمشق ، سوريا، ص 165.
32- أنظر أوفيد: مسخ الكائنات، تر ثروت عكاشة، مر مجدي وهبة، دار الكتب،1971
33-فوزية أحمد الفيلالي، هل للفراشات دموع؟،ص161
34-المصدر نفسه:129-130
35-المصدر نفسه:135
36- ابراهيم عبد الرحمن محمد: قضايا الشعر في النقد العربي، ط2، دار العودة، 1981، ص116
37- فوزية أحمد الفيلالي، هل للفراشات دموع؟، ص142
38-المصدر نفسه:144-145
39-المصدر نفسه:21
40-المصدر نفسه:64
41-المصدر نفسه:140-141
42-المصدر نفسه:71
43-المصدر نفسه:147
44-عبد السلام المساوي: جماليات الموت في شعر محمود درويش، دار الساقي، ط1، بيروت لبنان، 2009، ص25
45- فوزية أحمد الفيلالي، هل للفراشات دموع؟، ص76-77
46-المصدر نفسه:119
[1] -سورة الأنبياء: الآية 35
[2] -فوزية أحمد الفيلالي: هل للفراشات دموع، دار الماهر،ط1، 2018،الجزائر، ص13
[3] -المصدرالسابق: ص37
[4] -المصدر نفسه: ص 49
[5] -المصدر نفسه: ص53
[6] -فوزية الفيلالي: هل للفراشات دموع: ص14
[7] -المصدر السابق: ص16
[8] -المصدر السابق: ص 24
-المصدر السابق: ص 66[9]
-المصدرنفسه: ص67[10]
[11] -المصدر السابق: ص140
– المصدرنفسه: ص85[12]
– المصدر السابق: ص85[13]
[14] -المصدر نفسه: ص109
[15] المصدر السابق: ص 94-96
-المصدر السابق: ص -108-107[16]
[17]– المصدر السابق: ص 115
– المصدر السابق: ص116[18]
-المصدر نفسه: ص29[19]
-المصدر السابق: ص 163-164[20]
[21] -المصدر السابق: ص166
-فوزية فيلالي: هل للفراشات دموع؟: ص110[22]
[23] – المصدر السابق: ص 17
[24] -المصدر نفسه: ص99
-المصدر السابق: ص25-26[25]
-المصدر نفسه : ص56-57[26]
-المصدر نفسه:ص123[27]
-المصدر نفسه: 152[28]
[29] -المصدر السابق: 158
[30] -المصدر نفسه: ص18-19
[31] : فينوس : هي إله الحب والجمال عند الإغريق، لها علاقة بالحدائق والجمال. أحبت أودونيس الذي وصف بجماله الخارق وقد تخاصمت أفروديت مع آلهة الموتى “بيرسفون لحيازته والحصول على حبه وكان الخصام دمويا مما دعا لعرض الخصام على زيوس، فحكم على أدونيس بأن يقضي ثلث وقته لنفسه والثلث لأفروديت والثلث الآخر لبيرسفون لذا يموت أدونيس كل عام ويعود للحياة
أنظر : آرثر كورثل، قاموس أساطير العالم ، تر : سهى الطريحي، دار نينوى، دمشق ، سوريا، ص 165.
[32] – أنظر أوفيد: مسخ الكائنات، تر ثروت عكاشة، مر مجدي وهبة، دار الكتب،1971.[32]
[33] -فوزية فيلالي: هل للفراشات دموع؟، ص 161
[34] -المصدر السابق: ص129-130
[35] -المصدر السابق: ص135-
[36] -ابراهيم عبد الرحمن محمد: قضايا الشعر في النقد العربي، ط2، دار العودة، 1981، ص116
[37] -المصدر السابق :ص 142
[38] -المصدر السابق: ص144-145
-المصدر نفسه: ص21[39]
-المصدر السابق: 64[40]
[41] -المصدر السابق: 140-141
[42] -المصدر السابق: ص71
[43] -المصدر نفسه: ص147-148
[44] -عبد السلام المساوي: جماليات الموت في شعر محمود درويش، دار الساقي، ط1، بيروت لبنان، 2009، ص25
[45] -المصدر السابق: ص76-77
[46] – المصدر نفسه: 119