لحسن ملواني : عمق التعبير عن الأزمة في أعمال تشكيلية
*قراءة عابرة للوحات العراقي فاضل عبد الحكيم
إعادة الكتابة حول المنجز الإبداعي لفنان معين تفرضه جدته المتواصلة والمحاينة للمستجدات الطارئة في الواقع المعيش ، ذاك ما ساورنا وقد سبق أن كتبنا مقالا عاما عن الاعمال الفنية المتميزة للفنان العراقي فاضل عبد الحكيم ، التشكيلي المهووس بالغوص في ثنايا الواقع مما جعل لوحاته نابضة بالأحزان والأشجان وهو يتأمل المجريات الفظيعة تواصل نهشها للمجتمع العراقي .
و إبداعات عبد الحكيم ما تزال بثرائها البصري الحامل لمعطيات مثيرة للأحاسيس والخلجات المتنوعة " لوحات تتداخل الألوان المشكلة لنسيجها تداخلا دقيقا مؤسسا على التدرج الشفيف الذي يحول دون ظهور الفواصل والسدود بين مؤثثات اللوحة.
إن التوزيعات اللونية في لوحات هذا الفنان تخرج المرسوم من عناصرها متقابلا تقابلات إبداعية رائعة تجعل المشاهد أمام فسحة تسمح بالسياحة بين أبعادها. وحتى لوحاته التجريدية تتميز بحميمية تقود إلى فضاءات مركونة في الذاكرة بحيث تظهر وكأنها جزء من العناصر المعتادة في كثير من الفضاءات الجغرافية المعتادة. وبهذه الطريقة نجد لوحاته التجريدية غير مغرقة في الإبهام والتعمية على غرار بعض اللوحات التي توضع على وجهها أشرطة وعلامات لا تستطيع أن تعني سوى اللعب بالأشكال والألوان" (فقرة من مقالي السابق).
وإذا كان منجز هذا المبدع المتفاني في خدمة فنه متنوعا فإن لوحاته في الآونة الاخيرة اتخذت طابعا مأساويا أملاه عليه ما ينغص على حياة العراقيين من دمار وقتل وتهجير وإبادة مفاجئة تحصد الأبرياء صباح مساء.
وقد تفنن المبدع في إبراز هاته المآسي وعلى رأسها التهجير الذي يعتبر أمَرَّ من السجن ، فالتهجير في العراق صار أمرا تتعرض له كل الطوائف وكأنها أشجار تقلع من حقولها كي ترحل نحو المجهول.
وتعبيرا عن هذا الواقع الفظيع سخر عبد الحكيم كثيرا من الخامات والأدوات من أجل إثارة الانتباه إليها .

فنجده في عمل يضم ست لوحات تتكامل من حيث ما تحيل عليه رغم أن كل واحدة من المجموعة تثير إحساسا يخالف ما تثيره غيرها ليترك اللوحة الأخرى صافية بلا أي شكل ولا أي لون ، لتطرح على المشاهد أسئلة متعددة منها :ماذا بعد هذا التهجير؟ إلى أي موطن غريب ينَقَّل المهجرون؟ هل بعد التهجير العدم أم الانوجاد ثانية؟...أسئلة تحملها اللوحة البيضاء وهي تتوج هذا العمل الحامل للوجوه الصارخة والعيون المنطفئة يحدوها الصليب في رهبة الانتظار والارتحال إلى المجهول. ألوان يتداخل فيها الأسود والرمادي والأحمر الباهت والمغلق أحيانا مما يحيل على المواجع والفجائع الجاثمة على صدور هؤلاء المهجرين محملين بأطفالهم وهمومهم المتعددة.
وبشكل طولي نجد عملا جميلا تشاهد فيه حكاية الطفولة المعذبة في ظل واقع تتناسل فيه المآسي وضمنها التهجير الذي تعكسه اللوحات المتتابعة طوليا وكأنها ترصد للأحزان المتوالية على قلوب المهجرين . ومن المعلوم أن المجتمع العراقي مرّ ويمرّ بمحن مضاعفة من المآسي والمعاناة مما جعل شبح التقتيل والتهجير ساريا ليسهم في حالة التوترات والاضطرابات الحادة وهو ما ينغص على وجدان المبدعين باعتبارهم ألسنة الشعب في التعبير عن تمزقاته ومتاعبه ، فالمبدعون لهم القدرة على التقاط الفواجع معبرين عنها بوسائلهم المختلفة.
وهكذا جسد عبد الحكيم تراجيديا المجتمع العراقي الملتهب بفعل الاضطرابات السياسية المثيرة للحروب بما تحمله من تبعات خطيرة
لقد جاءت اللوحات بخامات وتقنيات مختلفة أبرزها القص واللصق إلى جانب الاختيارات اللونية التي نرى مناسبتها للأجواء المأساوية التي تجسدها كل اعماله الفنية. وهكذا جاءت أعماله الأخيرة موشحة بخطابات بصرية حارقة معبرة عن أبعاد المأساة العراقية بملمح إبداعي واستطيقي متميز. وبذلك تثير لوحاته علامات وأيقونات لصيقة بالمكان بأبعاد أفراده الذاتية والوجودية والمأساوية والتاريخية ، وبشكل تضميني تمثل أعماله مجالا لرؤية ما يجري من محن هؤلاء الابرياء المطاردين الحاملين لجراحات الماضي والحاضر كما تبين ذلك وسائل الإعلام المختلفة بين حين وحين. كل لوحة من لوحات فاضل عبد الحكيم تحمل جزءا من محن المواطن العراقي المحاط بأنياب الحرب والتهجير ،وهو في ذلك يجسد في ذات الوقت حلم هذا العراقي المغترب إلى استعادة الامن والكرامة والحياة الآمنة باعتباره حقا من حقوق كل إنسان على وجه البسيطة.
ولأن الفنان يستوحي من معطيات الفن المتطورة عناصره الجمالية والتعبيرية فقد عرف الفنان عبد الحكيم فاضل بتوظيفه لكثير من هذه المعطيات والتقنيات مما يحول أعماله إلى أيقونات ناطقة بألوانها وتشكيلاتها موقظة إحساسات التعاطف مع المعبر عنهم ، لذا جاءت أعماله حافلة بالجمالية المحيلة على دلالات متعددة تبرز ما يعتمل في النفوس من حرقة وأمل واشتياق.
وتبقى الاعمال الفنية لفاضل عبد الحكيم مرتبطة وملتزمة بمواقف يمليها عليه المجتمع العراقي بمطامحه وآهاته.
ولأن الفن التشكيلي العراقي من منابع الفن العربي فإن هذا المبدع له لمسته الخاصة في الحركة التشكيلية العراقية والعربية عامة.
*كاتب مغربي