احمد الشيخاوي : التمرد وفق مفاهيم حداثية للانتماء
*نص ( مهرج يحاول إضحاك مهرج آخر )
للوهلة الأولى يخيل للقارئ أنه إزاء صوت مهجري، بنايات الإغتراب المرّ القاسي، يرسم كلمات بسيطة لكنها إنسانية العمق حداثية المغزى والدلالة.
هو هكذا الشاعر المغربي الأكثر التحاما بالتجربة والتصاقا بعوالمها، محمد بنميلود الصريح في مواقفه والشعبي جدا في التعاطي مع المواضيع والظواهر الحساسة الملغومة بجملة من التحفظات والطابوهات الجبانة.
معجمه يتغذى من روح الشارع الطافحة بالمفارقات،ومن ثقافة فرنكفونية رامية إلى الإنتصاف للهوية الضائعة وتلميع الصورة عبر لغة سوداوية ساخرة تدين الزيف والأقنعة..
[وطني /هو جسدي/ أينما ذهبتُ آخذه معي /على شكل منفى متنقّل /ببابٍ /ونافذتين/ ومرحاض وعجلات /أركنه فوق سرير فندق/ وأنام].
إن هذا الوطن الأشبه بمنفى متنقل،بباب ونافذتين ومرحاض وعجلات،وهي صورة رمزية من وحي روح متسامية متشبعة بالوعي الجمعي،كما أنها اكتسبت قيمتها الفنية والمعرفية من كونها على قدر كبير من القابلية للتجاوب مع مخيلة كل الشرائح الإنسانية إجمالا،وكأن المغاربة على طبقيتهم وتفاوت مستوياتهم ثقافيا واجتماعيا، يختزلون الوطن في بيت دافئ متماسك يكتنفه ولو النزر القليل من الرخاء الإقتصادي يستجيب إلى ما تمليه تطلعاتهم وأحلامهم البسيطة المشروعة.
وهذا هو المفضي، وحده المفضي إلى مناخ ما بعد هجعة عواصف حرب باردة، ليست على غرار ما تشهده البعض من الدول العربية . بقدر ما هي كطراز آخر من الحروب لها خصوصيتها وسريتها التامة أيضا، وصمتها الدال من خلال منجز كالذي بين أيدينا ، يلامس التفاصيل الصغيرة والهموم المشتركة .
مناخ الإنتشاء بربح الحرب ضد الذات وكل ما ينعق حولها من ضغوطات وإكراهات وتكالب قميئ على مصالح الوطن.
[حين نربح الحرب /لا أريد أن أتعارك في مطعم صغير/ بالصّدفة / مع ملاكم / خارج للتوّ من السّجن /بتهمة القتل على الحلبة / بوضع مسامير في القفّازات /لن تؤلمه لكمات الشّعراء الخياليّة / يسقطنى أرضًا أمام حبيبتي الّتي مثّلت أمامها طويلاً /أنّي بطل ].
هكذا نجد الحديث عن الأسرة والنوم، مهّد لطقوس ما بعد ربح الحرب كما يقترحها شاعرنا وقد أبى إلا أن يُلبسها حلّة لغوية مواكبة لإفرازات مادية ومؤسساتية من إملاءات التطور البشري في بعديه التقني الآلي والعمراني وهما يلغيان أو يدوسان النظريات الروحية في معالجة إشكالات العصر وتناسل أسئلته الشائكة .
يسلك شاعرنا دربه المرصع بالكلمة الجريئة المنتقمة المطعّمة بالنرجسية المقبولة والمهضومة نقديا، دون أن تزيغ رؤاه عن تقمص هموم الطبقات المسحوقة والكادحة من بني جلدته.
إنها لكمات الشعراء الخيالية ، كضرب من البطولة الروحية الفياضة بمنظومة قيم باعثة على تجديد الشخصية وتطويرها عبر ما يرسخ لثقافة إعادة إدماج الحالات المرضية ، في المجتمع ، كأسلوب حضاري ممكن من التمرد على سياسة النبذ والتهميش والإقصاء. ولو أن هكذا بطولة تصنف في خانة التمثيل الرامي إلى نيل استحسان وإعجاب الحبيبة . وهذا من قطوف ما بعد ربح الحرب طبعا.
[أركل الكواكب كالحصى داخل قصائدي /أعبّئ الرّعد بالدّيناميت / وأحوّل ببساطةٍ يَدِي إلى مسدّس /بمدِّ أصبعي الوسطى / والسبّابة / والإبهام / وثَني الخنصر /والبنصر].
إعتمادا على الخارق وبتعبيرات بريئة وديعة توقظ الطفل البعيد الساكن عمق كل مغربي يئن تحت وطأة خسارة الوطن كحبيبة وكمنفى وككرامة، وطأة طاحنة يعجز حتى الشعر عن مقاربة ما يعكس البعض من حدتها ومرارتها وهيمنتها..، يستأنف الشاعر سرد تفاصيل نضاله وحربه الخاصة الأشبه بجمرة في كومة من قش .
كأنما اقتضى عمق المعاناة ودمويتها الرمزية ، استدعاء حنجرة برعد مضاعف،مزلزل،حدّ وصول رسالة محمد بنميلود، إلى العقول البور العابثة بمصائر الدراويش القاصرة أذهانهم على التحليق فوق طوابير توزيع أكياس القمح المدعم،والصعود الصارخوي لأسعار المواد الغذائية وغلاء فواتير الماء والكهرباء وهلم جرا مما على شاكلة أوبئة من صنع تناوب حكومي انتهازي فاشل عقيم .
[ستكون هزيمتي أكبر / من نصر تافه في الحرب / يحرزه وطنٌ / يحتفل به الجنود والمعطوبون والخونة / طيلة اللّيل /بالرّقص /وأكل الحلوى منكّهة بالفراولة / وتبادل الأنخاب /والضّغط على كلاكسونات السيّارات / مع موسيقى الطّبول ].
طفح الكيل إذن… هي الهزيمة كما يرسمها مخيال شاعر يؤثر الكلمات الأكثر شيوعا بين العامة ،الكلمات المتداولة والمستعملة كثيرا، لكن مع الحرص على الزج بها ضمن قوالب إبداعية وصياغات تخدم النسيج الإجمالي للنص وتتناغم مع النسق.
الهزيمة النفسية كمقابل لامتياز كسب الحرب . إحدى النهايتين المتضاربتين دلا ليا، إما هذه أو تلك.
إنه خطاب عاقل ينم عن تمرّس ونبوغ ونضج حياتي وثقافي جليّ، فالنصر ليس ظاهريا كما هو متعارف عليه،يحرزه وطن ما ، فتتساوى حوله احتفالية الوطني الحرّ والخائن المتاجر في مصالح بلده على حد سواء، يقتسمان أنخاب الغبطة من ذات الكأس . لا، بل هو نصر ذو صبغة أخرى مغايرة تماما ونكهة مختلفة . إنه انتصار على الذات عبر التخلص من الأنانيات المريضة المروّجة لتيارات التخدير كمظلة للتعتيم على الأخطاء السياسية المعمّقة للشّرخ والمسهمة في تفاقم الأزمة واستفحالها .
[أنتم تربحون الحرب / وتحتفلون / وأنا أخسر حبيبتي / ووطني / ومنفاي / وكرامتي / ولن ينفعني الشِّعر / حتّى في الحزن / بل ستبدو هاتان الكلمتان / خنصر / وبنصر / كمهرّجين تافهين /يحاولان إضحاك بعضهما / بفشل مضحك للغاية ].
تلكم واحدية تختزل وعيا شعبيا يقرّ بخطورة مشهد سياسي زائف متخبط في متاهات ارتجال الحلول ، بعد لم يتعافى من أنانية هي بمثابة الوقود لاحتقان جماهيري موقوت الإنفجار، فالحذر الحذر الحذر.
خلاصة القول أن النص مهما اتّسم بالغلو والإسراف في عرض تفاصيل جسدية أنأى ما تكون عن موسيقى روحية في مراياها المترنمة بشجن الذات وأوجاعها واضظراباتها المقلقة ، وإن ثم ذلك على نحو هوليودي مثير يشيد بالقوة كسلاح أساسي لإدراك الصفوف الأمامية و فرض الإحترام والهوية والخصوصية ، على الآخر ، في زمن نخرته حمى المادية الكاسحة والمهيمنة،إلا أن ماهيته، أي النص المنقود، توحي بروح التمرد المتصل بجذور وطنية وفق لغة نابضة بالمفاهيم الحداثية المفجرة لأسئلة المواطنة والإنتماء.
*شاعر وناقد مغربي