سؤال المعنى

لحسن أيت بها : سؤال المعنى 


*الحوار الثقافي مع الدكتور سلام أحمد إدريسو:سؤال المعنى والشوق  اللامنتهي..

مما لا شك فيه أن مسار الأستاذ سلام أحمد إدريسو الإبداعي والثقافي والفكري، مسار حافل بالعطاء الزاخر يسير فيه على قدر واحد في ميادين مختلفة، الشعر والرواية والنقد معا، ونادرا ما نجد كاتبا يؤلف بينها ويستمر به العطاء، فلا يصيبه كلل أو تعب، ولا يعرف الاستسلام والاستكانة إليه سبيلا.

فالكاتب الذي يجمع بين هذه المزايا ينهل من بحر فكري وثقافي متلاطم الأمواج، الموسوعية خاصية من خاصياته التي تميزه وتجعله محافظا على ريادته وبسط هيمنته على الساحة النقدية والفكرية لعقود متتالية…

إن أول ما يثيرك في هدوئه المعتاد وصمته الوقور المهيب، روحه الطيبة المرحة، التي تغوص في عمق المعاني وتسمو في روحانية، وتأمل فلسفي ينبئك بنفسه الزاهدة في الحياة، وطلبه المعاني السامية ذات الدلالات البعيدة المغزى، مع التواضع المليء بالحب والتضحية بالذات وحب الانسانية…

بغض البصر عن المعاني المبتذلة السطحية فلا تثيره ولا تستهويه، ولا تنسيه عمق الدلالة وسمو المعنى ورفعة المنهج، فيحاول في نصوصه إيجاد العلاقة بين الأشياء والعلاقات والأشكال والرموز، فهو لا يكتب من أجل الكتابة نفسها، إنما من أجل مغامرة التجريب والقلق الدائم في الحياة سؤالا وتأملا… كتاباته تأمل باطني يسبر أغوار الحياة، يحاول إيجاد المعنى الحقيقي في الوجود وواقع الناس المعيش، وفي مكنون الجمال، من خلال الهموم اليومية والبحث عن الجمال الروحي بكل تجلياته وأبعاده، انطلاقا من وعيه الخاص.

ففي الحوار الثقافي الممتع والمشوق الذي أجراه معه الاستاذ وحيد تاجا يقول في معرض حديثه عن تجربته الإبداعية وفي فن الرواية بالتحديد: “صوفية الكتابة تنبع من فرادة التذوق لا سطحية الإتباع، لا شيخ للصوفي غير أسئلته، ولا قدح يشرب منه يوميا غير أشواقه الذاتية وفهمه الخاص للكون والذات وما بينهما..

الرواية على الخصوص ذهاب ضروري ومبدأي نحو أسئلة الروح ومعاناتها لا نحو سطح اليومي الفج، لكل شيء جذره الباطني الأنطولوجي المدهش، هناك داخل هذا الجذر الباطني تتحرك الرواية، وهناك ينبغي أن يتجه الشعر أيضا..”[1].

الكتابة الصوفية في روايات الدكتور سلام أحمد إدريسو تنهل من زاد علمي ثقافي متعدد الروافد، الصوفية بمعناها البسيط المنغمس في العشق الروحي الأبدي للإنسانية بحمولتها الثقافية ولغاتها وخصائصها الكونية، أسئلته اللامنتهية التي لازمته في معايشته للإنسان القريب والبعيد، يجعل منهما المنطلق لفهم الذات والعالم وما بينهما وبالتالي تفسيره إبداعا وشعرا…

ومن الطبيعي أن نجد كل هذا في الرواية؛ لأن طبيعة الرواية مرتبطةبرمزيتها في التعبير عن ميولات الذات، وأنطولوجية الانسان الوجودية، تمزج المتخيل بالواقع، وتجعل من الواقع مرآة الحاضر والمستقبل، تبرز الأسئلة النقدية في آن وتعطي صورة الواقعاليومي في آن واحد، فإذا كان الشعر منبعه الأصلي الروحي باطن الإنسان وبواعثه، بحيث يعبر بواسطة اللغة بلاوعي منه إذ تتدفق الأحاسيس والمشاعر معلنة التمرد على كوابح الذات، فإن الرواية بالخصوص عند أحمد سلام إدريسو لها مذاقها الخاص، فأسرار الباطن والوعي الخاص الذي تحدث عنه، لا يمكن أن يصدر إلا عن ذات متشوقة للذكرى المتغلغلة في الروح، مستحضرا البعد الزمني والثقافي والفكري السائد، معالجا إياها من منظور شيخ صوفي ما زال في طور توليد المعاني وتكوين رؤية فلسفية شاملة ترصد الواقع وتنتقده في الوقت نفسه.

إلى عمق البساطة يأخذنا الشاعر والروائي أحمد سلام إدريسوبصوفيته المتفردة ذات المغزى الكوني كما أسلفنا، الرواية عنده تعبير عن عشق لازمه منذ الطفولة المبكرة مستمد من زاد روحي ثقافي وعلمي ثري مكتنز بالمعاني، وهي فيحاضره مزيج التام وسلام روحي استوى على سوقه، يستشرف ذلك المستقبل الذي يعرفه الكاتب ويراه على مقربة منه، ليفسر به الحاضر المغرق في صراعه الذاتي، في ثورته وتمرده غير العاديين، وعلى هذا المنوال يفسر رؤيته للحداثة ” حين يقول لنا المبدع وقع العالم على وعيه الخاص، وينجزه عبر مشروع فني جمالي فلسفي ملموس، ولا يسعى إلى ترديد المسكوكات، فهو مبدع حداثي بامتياز حتى ولو كان متصوفا أو عالم دين أو عالم ذرة أو ساردا أو تشكيليا أو شاعرا أو عالم آثار…”[2].

ونراه في التجريب يعبر عنه بقوله: ” أنا لا أجرب بالمعنى المتداول للفظ التجريب… أنا أنطلق من وعيمتجدر في كينونتي بأن الكتابة بشكل عام لا تكون كتابة سوى بهوية الاحتمال الكامن فيها… الكتابة ضد المسكوك… والكتابة ضد المسبق، وكل نظر أوفهم أو سلوك مشحون بالمسبقات والمسكوكات يقتل الكتابة في تقديري حتما… ومن هنا فأنت سألت عن هوية الاحتمال في سياق الرواية تخصيصا…”[3].
التجريب لديه له خلفية فلسفية تحمل في ثناياها كل ما هو تاريخي ونفسي واجتماعي، نابعة من السؤال الفلسفي نفسه ومن الذات لتنفتح على العالم في إمكانياته اللامحدودة.

يعتبر الباحثون التجربة الجديدة هي التجربة التي تجرب أدوات جديدة، وتدخل عناصر جديدة وغير معتادة،”والتجربة تبعا لهذا التصور لا نعتبرها كذلك إلا إذا كانت جديدة بالفعل، وكذلك القراءة، إننا ونحن نحملهما معا بعد الإنتاج، نميزهما عن إعادات الإنتاج السائدة، وفي مختلف المجالات، ولعل الدلالة الإنتاجية بطابعها المتميز، التي نضفيها عليهما، هي التي حذت بالكثيرين إلى نعتها هذه التجربة الروائية الجديدة، على سبيل المثال ب”التجريب”[4].

ونجد المكون الصوفي حاضرا بقوة في شعره أيضا، يعبر فيه عن رؤيته الفنية الخاصة، والرؤيا هي التي أصبح يعرفها الشاعر اتجاه المستقبل قصد تأويله واستشراف مضامينه، فلا تكمن الحداثة في خروج الشاعر على الوزن والقافية، وإنما في بلورة رؤيا خاصة بالشاعر انطلاقا من تجربته الذاتية ومن مطالعاته وثقافته الواسعة، يعبر فيها عن تنبئه للعلم وفهمه الجيد للواقع، وفي تعبيره هذا يعبر عن تجارب الإنسانية كلها، ويستعمل لذلك الرموز والأقنعة والأساطير التي استمدها الشاعر من تجربته الوجدانية والفكرية المعيشة، وقد أتى على بيان مفهوم الرؤيا الأستاذ محمد نفاذ عندما تحدث عن رؤيا الإشراق في غربة المبدع سلام إدريسو، ديوان “طير خماص” نموذجا، ويسجل حضور الرؤيا بوصفها فلسفة إشراقية تحضر في الكتابة الإبداعية للشاعر سلام ادريسو على المستوى الاصطلاحي والرمزي، تصريحات تارة، تلميحا تارة أخرى.

يجمع الشاعر سلام إدريسو بين عمق الرؤيا وجمالية التشكيل في تناسب كبير مع المعاني الصوفية الوجدانية بأعماقها الإبداعية العرفانية.

كما نسجل حضور ظاهرة التكرار في نصه الشعري، الذي ينضاف إلى التشكيل البصري فيعطي للقصيدة رونقا خاصا، وجمالا فتانا، ما فتئ يستولي على النفوس والقلوب، ويجتذب القارئ، كما أن هذا القارئ الذي حاولنا الإشارة إليه في مبحثنا هذا المقتطف، هو قارئ خاص من مستوى عال متمرس على الأعمال الابداعية كما وصفه لمحاوره في الكتاب.

المصادر والمراجع:

  • جنين المعنى، رؤى وقراءت في المسار الثقافي لسلام أحمد إدريسو، جماعة من المؤلفين، منشورات محترف الكتابة، فاس، ط1، 2018.

ـ القراءة و التجربة سعيد يقطين، رؤِية للنشر والتوزيع، ط1، القاهرة 2014.


1-جنين المعنى، رؤى وقراءت في المسار الثقافي لسلام أحمد إدريسو، جماعة من المؤلفين، منشورات محترف الكتابة، فاس، ط1، 2018. ص:27.

-جنين المعنى، رؤى وقراءت في المسار الثقافي لسلام أحمد إدريسو، جماعة من المؤلفين، ص:16.[2]

جنين المعنى، ،ص: 25. – [3]

[4]ـالقراءة والتجربة سعيد يقطين، ـ القراءة التجربة سعيد يقطين، رؤِية للنشر والتوزيع، ط1، القاهرة 2014.

ص:39.

*شاعر وناقد مغربي

تم عمل هذا الموقع بواسطة