احمد الشيخاوي : نوافذ في عتمة الذات والحياة
*مجموعة عوالم شفافة
في مجموعته ” عوالم شفافة ” الصادرة حديثا عن جامعة المبدعين المغاربة،ينتدب المبدع المغربي الشاب احمد شرقي، للعبة القص شخوصا أكثر ضبابية وخارج التوقع ،وإن عكست تجاربهم معاناة حقيقية ومضنية ليس يكابدها سوى آل الذيل،
أو كائنات الهامش والهشاشة داخل دهاليز الطبقة المجتمعية التي يمثلها البسطاء والبؤساء على حد تعريف الفرنسي ” فيكتور هيجو”.
هذا المنجز الواقع في 88صفحة من القطع المتوسط،والمتضمن لإحدى وعشرين نصا قصصيا، أحسبه قدّم النوعية و الإضافة والفرادة في الحدود الدنيا ، من حيث مزجه ما بين قضايا الساعة و اعتماد اللغة الشعرية القريبة من الإدراك، ما منح مثل هذه السردية نفسا تشويقيا جاذبا، طاردا لضجر مواكبة اللعبة في سائر محطاتها حتّى النهايات ، مع تفادي الإطناب والإسراف في الاستدعاءات التي قد تشوّه الملامح البعيدة في لوحة المحكي ،أو تبعث على روتين التلقّي جراء التتقنّع الغرائبي الزائد غير المرغوب فيه،بل نلفيها تتبنى الخطاب المقنع والمحكم بقصديات الانتصار لإنسانية الكائن على اختلاف قضاياه.
نصوص جميلة تضع المتلقي إزاء فلتات من السرنمة الوقف على السرد والمحاورة ، ضمن دوائر الوجع الإنساني المطمور، تقليبا لصفحات وجودية مدماة ، ومصطبغة بفلسفة الجراجات الغائرة في علاقة الذات بمركزيتها وبقية ما يتفرّع عنها من عوالم.
ننتقي له هذه المحاورة الدالة على استرجاع أو فعل ذاكراتي ،تستنشق معه نسمات الطوباوية ، بوصفها بديلا لواقع تقاطعات أسر الذاكرة ويأس اللحظة، نجده يدوّر على لسان حبيبته تلك البلسم لروحه المرتبكة و الهائمة في متاهات مفتوحة ،كما تفتي بها تأويلات النوافذ / العوالم في طور تناسلاتها وسيرها أو صيرورتها في جيوب اللانهائي: [ ــــ باي باي مع السلامة … شكرا على الزيارة…
أحن إلى إطلالتها عليّ وهي مغادرة إلى العمل في بيوت السيدات ، كانت تودّعني مرسلة قبلة حنونة عبر الهواء تُتبعها عبارتها:
ــــ لن أتأخر عليك،الأكل على الطاولة مصان ومغطى بثوب لونه كذا … الله معك.
ثم تتلاشى وسط دروب المدينة الموحشة.
يبلغ غضبي قمته بسبب شبح أستاذ الفلسفة المتربص بي في كل حين ، والمغرم بتشاؤم شوبنهاور ؛ ” إذا لم أجد شيئا يقلقني، فهذا بحد ذاته يقلقني” ، كان يردد على مسامعنا.](1).
ههنا نتبين كيف أن الأمل يصنعه الحب فقط، وإن توهّما، فيما تتحقق سلطة الذاكرة ، في الحضور الرمزي القوي لشخصية أستاذ الفلسفة على تعدد مثالبها المغذية للضجر ، هذا الذي تسافر في كل الأزمنة أشباحه لتطارد جل كائنات المحكي عبر تلبّس روح السارد، ما يدفعه إلى إتمام فصول السردية ، أو محاولة ذلك، بصوت تشكيكي قلق لا يزيغ ــــ مكانيا ـــ بالأحرى ، عن ما يمكنه أن يجسّد ولو بصيصا للأمل ، النوافذ مثلا مثلما هوي جلي في تيمات نصوص المجموعة ، واجهاتيا أو ضمنيا ، وإن كانت الرؤية في مجملها معلّقة بذاكرة ترعبها أشباح هذه الشخصية التي يبدو أنه أثرت وبالسلب على فترة عمرية مبكرة في كينونة القاص عبر سارده أو بطل قصصه المتحول،حتى ليأخذ القص منسوبا كافيا من تلكم الخلفية ، ويتشبّع بما يخوّله بلوغ مستويات السرد الراقي المعبّر والراقي والبليغ في إعطاء دروس الحكمة والعبر ، اعتناء بالجانب الرّسالي ورعاية لسياقاته وأنساقه.
نطالع له أيضا قوله : [ كان بصري منصبا على الرجل المقنع في شكل أرنب ، يرقص رفقة الأولاد ،يطاردهم ويطاردونه، يلمحني من بعيد فيجري إلي وهم خلفه، يمسك يدي ويحاول أن يراقصني، لكن الخجل من الوالد يخيّم عليّ فأمتنع ،ثم يعود إلى المنصة خالي الوفاض.
بدأ نشاط الأرنب يتضاءل، وضع يده على صدره ، جثم عل ركبتيه، ضغب من الألم ، لم تفارق الابتسامة محياه،ولم يكترث له لا الكبار ولا الصغار، ظنوا أنه يتظاهر بالموت وسط ضجيج الأطفال وضحكاتهم، التفتّ إلى والدي لكي أنبّه للأمر،كان يلفظ أنفاسه الأخيرة في صمت](2).
إن هذا التحول الجاري في شخصيات السردية ،تماهيا مع مناخات الغرائبية، لا يكن فصله عن مرجعية وصايا البدء ، كما يشبعها الاحتقان بماضوية أستاذ الفلسفة الذي لم يلق في ذاكرة السارد ترحيبا، وهو تطور في اللاشعور ، أكيد ، مترجم لتمظهرات يقتضيها سياق تنويع الأقنعة،مسايرة لمستجدات الساحة وتنامي الأحداث ، قدرا يتيح حيزا سرمديا لتمطيط الحكاية ،ووسمها بمواقف العودة في زمن الطفولة أقصى ما تكون مغامرة القصّ الآسر بتلكم المقارنة ما بين عالمي الصغار والكبار،تبرّكا بتجربة أحد أهرامات القص المغربي والعربي ، أحمد بوزفور ، نص” الوجه العزيز ” على سبيل المثال لا الحصر ، وأيضا تثويرا لقضايا شائكة وأوبئة مجتمعية وسياسية واقتصادية وثقافية جمّة، نكاية في غائية الحياة المنسوجة على هذا المنوال، أو هذه المنصة الآيلة لكل يباب، حسب اعترافات صاحب المجموعة.
هذا وأحسب أحمد شرقي استطاع استنطاق ذلكم الطفل الخجول أو الانطوائي حتى ،القابع في أعماق شخوص منذورة للعجائبية والتحول والمسخ، داخل دائرة البحث المعياري في عتمة الذات والحياة، وفق معمار قصصي يزاوج بين الواقع والمتخيل، مقدّما رؤى مغايرة تعتمد التوأمة بين الشعري والسردي.
مجموعة تدمن مفارقات الخيط الفاصل بين عالمين ، تُسقط على راهن التخشّب والذبول ، ما تحاول أن تُسقط من شرود إبداعي محتف بالمفقود والهش في إنسانية الكائن وهو يتجرّع في صمت مرارة أخطاء الذاكرة والتاريخ، وانتماء لخرائطية صاخبة وملطّخة بهامشية طبقية تحيل على البساطة والبؤس ،ممسوسة بلعنة انتهاكهم وجوديا ، تبعا لتجاوزات ألفية الجنون والفوضى والغربة الروحية والانهزامية والاهتزاز..
هامش :
(1)مقتطف من نص” نافذة” صفحة 11.
(2)من نص ” الرجل الأرنب ” صفحة44.
* عوالم شفافة (مجموعة قصصية) لأحمد شرقي، طبعة أولى2019،منشورات جامعة المبدعين المغاربة، الدار البيضاء.
شاعر وناقد مغربي